لا يختلف اثنان عاقلان في أن تحديد الداء والوقوف عليه وحده لا يكفي لعلاج أي مرض مهما كانت خطورته فتكا مثل مرض الرشوة. وإنما يجب إيجاد الدواء المناسب للقيام بالعلاج الشافي ومحاولة اجتثاث المرض من أصله حتى لا يعود للظهور مرة ثانية، ومن ثم فتحديد أسباب الرشوة سلفا وتشخيصها، يدفعنا بالضرورة إلى البحث عن السبل الكفيلة للقضاء نهائيا أو على الأقل التخفيف من هذه الظاهرة المرضية في المجتمع واستئصالها تدريجيا على المدى الاستراتيجي. وباعتبار أن آثار الرشوة لا تقتصر على جانب معين من جوانب الحياة أو على قطاع من القطاعات، بل تمتد لتشمل كافة الجوانب الاجتماعية المختلفة السياسية منها والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والتربوية غالبا، فإنه يجب أن تتظافر الجهود في كافة الجوانب المذكورة لاستئصال هذا المرض الفتاك وهذه الآفة الخطيرة ومحاربة ذلك، على مستوى كل قطاع ووفق سبل معينة نتصورها كالتالي:
أولا : على المستوى السياسي:
- فمن السبل، ضرورة تفعيل دور اللجنة العليا لمكافحة جريمة الرشوة، وكذا اللجان الفرعية ودعمها بكل وسائل المراقبة والدعم.
- وأن يكون الذين يشتغلون في الوظائف السياسية العليا والوسطى قدوة حسنة ومثالا يحتذى في السلوك المهني والوظيفي، بحيث ينعكس أثره إيجابا على من هم تحت مسؤوليتهم، أو على مستوى المواطنين قاطبة.
- ضرورة تحقيق المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع والعاملين فيه.
- توفير مناخ جيد لحرية الصحافة، في حدود ما يسمح به الشرع والقانون، للتعبير عن الرأي البناء والهادف لممارسة دور الرقابة الحقيقية للكشف عن مواطن الفساد والرشوة، وذلك من خلال أجهزة ومؤسسات إعلام حرة ونزيهة.
- ضرورة تحقيق مبدإ استقلالية السلطة القضائية والعمل على توفير البيئة المناسبة من الناحية المادية والمعنوية للقضاة، وإغنائهم حتى لا يكونوا فريسة الإكراهات والضغوطات من قبل المفترين والظلمة من أكلة أموال الناس وهضم حقوقهم بالباطل، فتضمن بذلك اسقلاليتهم ونزاهتهم وحيادهم، وتحفظ كرامتهم وكرامة الوطن والمواطنين.
ثانيا : على المستوى الإداري :
إن مكافحة الرشوة ومحاربتها على المستوى الإداري، لابد أن يكون مقدمتها : الرقابة الفعالة على المواطنين وذلك من خلال إسناد مناصب المسؤوليات الإدارية إلى أشخاص يتمتعون بحس عال من الإخلاص واليقظة والنباهة والمسؤولية والصدق والأمانة، حتى يكونوا قدوة حسنة لمن هم أدنى منهم درجة، وحتى يقوموا بممارسة دورهم الرقابي بكل إخلاص وأمانة ومصداقية على مرؤوسيهم، وإلا فحينها إذا لم يفعلوا فإنهم يعتبرون من الخونة الذين لا يحسبنهم أحد {بمفازة من العذاب} في الآخرة إذا لم يتوبوا.
والرقابة لا تكون فقط من المدير على موظفيه فحسب أو من الرئيس وغيره، بل تكون أيضا من خلال أجهزة للرقابة والتفتيش، تعمل بنظام مستقل يراقب تصرفات الموظفين بشكل عام ودائم، فيبقى الموظف الذي لا يرتدع عن ارتكاب الجريمة بوحي من ضميره خائفا من المراقبة التي لا ينفك جهازها يسلط الضوء على سلوكه، ولا شك أن خشيته من تلك الرقابة المستمرة تمنعه من الإساءة إلى مسؤوليته ووظيفته. وإن من سبل معالجة الرشوة إداريا أيضا وضع الرجل المناسب في المكان المناسب على أساس مبدإ تكافؤ الفرص والمساواة أمام جميع المواطنين، إذ الاختيار والتعيين للوظيفة لا يكون إلا على أسس موضوعية وعلمية، وأيضا على أساس الكفاءة والأهلية، وليس على أساس الوساطة والمحسوبية والزبونية، وتقديم الرشاوى للظفر بالمناصب والمسؤوليات. إن علاج الرشوة في هذا المجال يتم أيضا بتطبيق مبدإ الثواب والعقاب وتفعيل قانون أو مبدإ من أين لك هذا؟ فمن كانت لديه أموال أو عقارات أو شركات أو استثمارات أو غيرها، فلابد من معرفة الطرق والوسائل الشرعية والقانونية التي حصل بها أي شخص على ما يملك، حيث يسهل بواسطة ذلك محاسبة كافة المرتشين والفاسدين والمعتدين على الأموال العامة أو الخاصة، وتأديبهم وصرفهم إذا ثبتت إدانتهم، ثم طردهم من الخدمة. وأما من ثبتت كفاءته ونزاهته وإخلاصه وصدقه وأمانته وفعاليته، فيتم مكافأته وترقيته وشكره وتكريمه وتثبيته والدعاء له، حتى يواصل عمله بصدق وأمانة. وأما إذا تمت ترقية الموظف المرتشي الخائن على حساب الموظف النزيه الأمين، فإن الموظف الخائن سوف يعمد إلى محاربة الموظف الصادق النزيه ويضغط عليه بكل وسائل الإكراه المعروفة ليوقعه في المحظور، لا قدر الله، وبالتالي تعم ظاهرة الرشوة بين جميع الموظفين في هذا الجانب، وتعم البلوى.
ثالثا : على المستوى الاقتصادي :
إنه لا يمكن أن نتصور مجتمعا طاهرا ومعافى من ظاهرة الرشوة، وأغلب موظفيه والعاملين بقطاعاته الإدارية يتقاضون أجورا لا تكفي لسد حاجياتهم الضرورية كالمسكن والسيارة والتمدرس والتطبيب والملبس والنظافة والعيش الكريم…، لذا فإن تحسين الوضع المادي والاقتصادي للموظفين من الفئة الوسطى فما دونها، للتغلب على مصاعب الحياة وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار بشكل خيالي،أصبح ضرورة لا بد منها. كما أنه لا بد من ضرورة دراسة واقع القوة الشرائية لمرتبات الموظفين، والزيادة فيها باستمرار، كي تؤمن لأدناهم معيشة كريمة تغنيه عن الارتشاء والوقوع في حبال هذه الجريمة الخطيرة. وإذا ما ارتكب الموظف بعد ذلك جريمة الرشوة، فإنه عندئذ يكون مجرما حقيقيا بالوثائق الثابتة، ومستحقا للعقاب، لأنه لم يرتش لحاجة أو فقر، وإنما لدناءته وقبحه وجشعه. ولا ينبغي انطلاقا من مفهوم تحليل بعض حالات الفقر لدى بعض الموظفين أو غيرهم أن يفهم منه إباحة الرشوة بأي حال أبدا، فالرشوة تبقى محرمة على الإطلاق، لأنها جرم يؤدي إلى ارتكاب كبيرة شرعية وتجاوز لحد من حدود الله تعالى، وهي جرم ينتج عنه ضياع حقوق الآخرين وفساد المجتمع والأسر… وينضاف إلى ما سبق ذكره في هذا الجانب، ضرورة التوزيع العادل للدخل القومي والثروات، تخفيفا لحدة التفاوت الفئوي في المجتمع، وذلك بسن سياسة مالية عادلة، وفرض ركن الزكاة التي هي حق من حقوق الله تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء. بل لا بد من تطوير الأنظمة والقوانين الاقتصادية والمالية، وذلك بالرجوع أولا وأساسا إلى الأنظمة الاقتصادية الإسلامية خاصة، مع الاستفادة من كل الأنظمة الأجنبية فيما يفيد، بهدف خلق واقع استثماري ملائم يسهم في دفع عجلة اقتصاد البلاد حتى تكون في طليعة الدول المتقدة والرائدة، ليستفيد من تجاربها غيرها من البلدان الأخرى.
رابعا : على المستوى الاجتماعي والتربوي :
فأما علاجها على هذين المستويين، فيتم من خلال تربية أفراد المجتمع تربية إيمانية يكون من ثمارها الأساسية الخوف من الله وخشيته ومراقبته. وعليه فلا بد من ربط المؤمن بخالقه ورازقه لتقوى صلته بربه سبحانه وتعالى، ثم زرع بذور الأخلاق الطيبة والمبادئ السامية في نفوس المواطنين، وبعد ذلك حثهم على الالتزام بالقيم النبيلة والأخلاق العالية والأهداف الكبرى. وسبيل هذا يكون من خلال قيام الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلامية بدورها، وكذا مؤسسات المجتمع كلها، أفرادا وجماعات، وخاصة منهم المسؤولين والأساتذةَ والمثقفين والعلماء والمربين والخطباءَ والوعاظَ، في إطار من التعاون والتكامل في تربية الناشئة من الأطفال والشباب والنساء والرجال،وتعليم وتوجيه كل فئات المجتمع إلى التزام السلوك القويم والأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، مقتنعين بكل وعي ومسؤولية أن الوازع الإيماني والديني المتمثل في الخوف من الله تعالى والتزام مبدإ الأخوة الإسلامية وعدم التفاضل على أي أساس غير شرعي أو قانوني، يشكل رقابة ذاتية على تصرفات وسلوك الناس، فإذا ما انحرف الإنسان بسلوكه عند غفلته وحالة طيشه، عاد به الوازع الإيماني والديني إلى جادة الصواب وتاب إلى الله تعالى وانقاد لشرعه وللقانون والتزم صراط الله المستقيم ونهج رسوله الصادق الأمين. ثم إنه بتربية الناس على أساس أصول الإسلام وقواعده وآدابه ومقاصده، وكذا التبصر بأهمية القوانين المنظمة لحركة المجتمع يتم تحسين مستوى الوعي العام في المجتمع بأكمله، ومن خلال القيام بحملات تحسيسية مستمرة يتم تقليص حجم الجريمة في المجتمع وينمو وعي الناس بخطورتها التي تعود سلبا على كيان الأفراد والمجتمع والدولة.
إنه لابد من الارتقاء بالمستوى العلمي والتعليمي والثقافي والتربوي للمواطنين والقضاء على الجهل والأمية، إلى حد يكفل تغليب المصالح العامة الواسعة على المصالح الشخصية الضيقة، وتنمية ولاء الموظف العام لله تعالى ورسوله والمؤمنين وللدولة وللمرفق الذي يعمل فيه، وإضعاف ولائه لشخصه ولمصلحته وأسرته ومعارفه وارتباطاته الخاصة.
هذا وإن علاج الرشوة أيضا يقتضي تشديد عقوبتها، حيث لا غرابة أن كان حكمها في الشريعة الإسلامية قاسيا. يقول عليه الصلاة والسلام : >لعن الله الراشي والمرتشي…< فليس هناك أكثر من اللعن النازل من عند الله تعالى. ومن ثم فلا بد من تشديد العقوبات القانونية لهذه الجريمة بما يتناسب مع الأثر السلبي الذي تخلفه في مختلف جوانب المجتمع سياسيا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا وتربويا. فالرشوة -أيها المسلمون -تعتبر ميزان حرارة المجتمع، فإذا انتشرت فيه فذاك دليل المرض والوهن والضعف والتخلف الذي يتصف به هذا المجتمع، مع انفراط عقده وضياع أفراده وطاقاته. وهذا لعمري يقتضي وبكل إلحاح أن تستنهض همم كل الصالحين والدعاة والمصلحين، وكل العلماء وأهل الحكم والقضاء، والقائمين على التربية والتوجيه للوقوف في وجه هذا الوباء بحزم وعزم وقوة، واتخاذ كافة التدابير وسبل الوقاية والعلاج حتى يشفى المجتمع من علله وأدوائه، وعلى رأسها هذا الداء العضال، لينعم الناس بالأمن والأمان والحرية والعدل والاستقرار بفضل الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه. نسأل الله تعالى التوفيق والسداد، والهداية والرشاد. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.