قال تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم]
بهذا خاطب رب العزة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في أول نزول للوحي رغم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا.
اقْرَأْ: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وخطاب لأمته على امتداد الأزمنة والعصور واتساع الأمكنة والدهور.
اقرأ، أَمْرٌ بقراءة كتاب الله تعالى هذا المنزل، وتدبُّرِ ما فيه من الآيات والأحكام والعظات.
اقرأ، وهو كذلك أمر بقراءة أيّ مكتوب يفيد الإنسان، لكن بشرط واحد وأساسي -وفي كلتا الحالتين: قراءة كتاب الله تعالى، أو قراءة أي شيء آخر – أن تكون القراءة باسم الله الخالق، خالق كل شيء، (الَّذِي خَلَقَ) الأكرم (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ)، الذي (علم الانسان ما لم يعلم).
إن هذه الآيات الكريمات المباركات كما يقول ابن كثير – هن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان: ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: (اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة.
إن كلام ابن كثير هذا نموذج لفقه السلف الصالح من هذه الأمة لمسألة القراءة، وإدراكهم لدلالة “اقرأ” حق الإدراك، ووعيهم بأهمية القراءة المؤدية إلى العلم، كل العلم، كل علم يفيد الإنسان في دنياه وأخراه، وبذلك أسسوا مجتمعا قارئا، وبنوا حضارة قوامها القراءة العالمة باسم الله الواحد الأحد.
فإلى أي حد أدركنا نحن في العصر الحاضر قيمة هذا الأمر الرباني، ونحن في عصر التتقنيات والرقميات، وإلى أي حد استلهمنا أسراره الروحية وفوائده العلمية والمعرفية والحضارية، بل إلى أي حد احتفظنا بمجهود أسلافنا وتراثهم القرائي؟
لقد افتقدنا، أو كدنا، كل دلالات (اقرأ) حتى في قراءتنا للذكر الحكيم، حيث إنه – وكيفما كان مفهوم القراءة نجد أننا قد ابتعدنا كثيرا عما كان عليه السلف:
فالقراءة التعبدية اقترنت في أذهان الكثيرين بالموت والقبور والتسول، أو في أحسن الأحوال بقراءة الحزب الراتب في المسجد. أما تلك القراءة التعبدية التي يطبعها التدبر والتفكر والتأمل في ما يُقرأ، وفي أبعاده ودلالاته الكونية، والتي ترتقي بالإنسان ديناً ودنيا، فيفضل خُلُقه، وترتقي معاملاته، ويحسن قوله ويجود فعله، ومن ثم يتقن العمل إذا عمل، والإنتاج إذا أنتج، والصناعة إذا صنع، والحديث إذا حدَّث. لا يسب ولا يلعن، ولا يسرق ولا يرتشي، ولا يغش ولا يدلس، ولا يكذب ولا يغتاب، إلى غير ذلك من اللاءات، فهذا ما لا نكاد نجده إلا في القليل النادر.
وأما القراءة العلمية فقد شاب العديدَ منها ما شابها من التنكر لحقيقة الوحي وما يتبعه من الإيمان بالله وملائكته وكتب ورسله واليوم الآخر، فغدا عندهم كتاب الله العزيز مثل أي كتاب سطرته يد البشر، وذلك باسم العلمية والموضوعية والحياد. مع العلم أن دعوة القرآن الكريم إلى استعمال العقل والنظر في الكون وتدبره لافت للنظر، وأن الرؤية العقلانية السليمة إلى الكتابين: المسطور والمنظور، تقود إلى الإيمان بالوحي.
وأما إذا نظرنا إلى القراءة بمفهومها العام فإن واقعها ليس بأفضل من السابق، فالقراءة التي تفيد التعلم (كما هو متداول في لغتنا الدارجة) تشهد تدهورا مستمرا وخاصة منذ الشروع في تطبيق ما عُرف بالإصلاح، ومن الدلائل على ذلك أن الأمية ما زالت ضاربة أطنابها في العديد من الشرائح الاجتماعية، والأدهى هو ما نشاهده من أمية مقنعة، حيث يمكن أن نجد خريج المستوى الابتدائي، أي بعد قضاء ست سنوات في التعلم وهو لا يعرف حتى كتابة جملة مفيدة، ولا قراءتها، بل كم من حَمَلَة الإجازات في مختلف التخصصات لا يستطيعون تحرير طلب أو كتابة رسالة من بنات أفكارهم وألفاظهم بشكل سليم.
والشيء ذاته بالنسبة للقراءة التي تفيد النهل من المعارف وتوسيع المدارك الثقافية، ويكفي أن ننظر إلى تقارير الأمم المتحدة حول نسبة القراءة في العالم العربي التي لا تراوح 7 في المائة، وأن كتابا واحدا يقرأه ثمانون عربيا، بينما يقرأ الأوروبي الواحد 35 كتابا.
ومن الغريب أنه رغم توفر التقنيات الرقمية المساعدة على القراءة بشكل كبير، تخزينا وعرضا، فإن غالبية من يستعمل هذه الوسائل من الشباب وحتى من غير الشباب – لا يوظفها من أجل القراءة، ولكن لأمور أخرى لا تخدم القراءة في شيء.
فهل أصبحت أمة اقرأ لا تقرأ ؟؟!!