قال الله جلت حكمته : {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج }(9- 11)
فمن ألطف الإشارات التي تنبثق عن حركة الأمطار، ومشاهد الرحمة المتنزلة بالغيث، فوق الروابي والمزارع والديار، بما لها من مقدمات الغيوم والرياح، ثم بما يتبعها من صَيِّبٍ نافع، وقطر مبارك كريم، متردد بين وابل وطل، وفي فعل التنزيل المضعف هذا{ونزلنا} إشارة لطيفة إلى حركة الغيث المترسلة، ونزوله فترة بعد فترة حسب الحاجة وأوقات المنفعة، بما لا يكون فيه ضرر على الفلاحات والعمران، ولذلك وصفه الرحمن ب”المبارك”، والماء المبارك يحيي ولا يقتل، وينفع ولا يضر.. ! ثم إن الله جل ثناؤه وصف ماء السماء بالبركة هنا أيضا بسبب ما يكون له من آثار في خروج النبات من تحت الأرض، ونمو الزروع والأشجار، وكل ما يرجو الإنسان حصاده من الخيرات والبركات، من مثل حب الحصيد، وهو القمح وما في معناه من أنواع الزروع والحبوب المدخرة، مما ينبني عليه قوت الإنسان. ثم ما يكون من اخضرار الروابي والبساتين والجنات ذات الخمائل والثمار والأطيار.. ويخص الرحمن أشجار النخيل بالذكر لما لها من جمال أخاذ وثمر كريم من جهة، ولما للتمر من قيمة غذائية لا تكاد تضاهى، ثم لأن التمر كان هو فاكهة العرب الأولى وما يزال. والباسقات من النخيل هن الطوال الشاهقات، الضاربات بطولهن في السماء مترفعات في عزهن بما أخرج الله منهن من طلع نضيد. والطلع هو عراجين النخل بعد بزوغها من أكمامها مباشرة، وقبل انتثار أزرارها، حيث تكون براعيمها الصغيرة آنئذ ما تزال منتظمة بدقة متناهية كانتظام حبات الرمان تحت غشائها، أو كانتظام عيون الشهد المختوم، قبل نزع غلائله الرطبة!
وإنها لمشاهد خارقة الجمال حقا إنك إذ ترى الزروع والثمار، والبساتين الغناء، والنخل الباسقات تلفحك الأشواق التي حلقت بتلك الأغصان عاليا، وارتفعت بذلك السعف الأخضر الجميل وهو يحتضن أثداء الطلع النضيد، متطلعا بجوانحه نحو السماء وكأنما هو يعتزم التحليق إلى الأفق الأعلى! وإنك لترى الأشجار فعلا تتطلع بأغصانها وأكمامها إلى خالقها العظيم!
ثم.. ثم تثقل العراجين بثمارها شيئا فشيئا حتى تتدلى نحو الأرض خاشعة!
وكأنما هي أم تحنو على طفلها الرضيع بأثدائها العامرة وتتدلى التمور والثمار نحو الأرض، {رزقا للعباد} تلك هي قصة الماء المبارك، وتلك هي دورة الحياة التي يصرفها الرحمن ما بين السماء والأرض، فيحيي به الأرض بعد موتها {رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا..} فترقص فرحة الحياة في العمران، ويخضر الأمل في القلوب، من بعد يأس وقنوط
إن المتفكر ليرى يد الخالق العظيم حاضرة خلف ستار حركة الكون، فهو تعالى يدبر أمر مملكته، ويرعى شؤون خلقه، ويسوق لهم الأرزاق ويفجر من حولهم أنهار الحياة وأنت تلحظ أن الأفعال كلها في الآيات السابقة مسندة إلى فاعل واحد هو الله رب العالمين، وأن التعبير فيها جميعا واقع بضمير المتكلم”نا” الدال على الحضور القوي {والارض مددناها.. وألقينا فيها.. وأنبتنا فيها.. ونزلنا.. فأنبتنا به.. وأحيينا..} فهذا الفاعل العظيم الحاضر القوي، المستوي على عرشه يدبر أمر مملكته، بما يشاهد الإنسان آثاره حواليه قوية متدفقة بالحياة، هو نفسه سبحانه إذ يعرض تلك المشاهد كلها يقول لنا : {كذلك الخروج} تماما كما ينبت الزرع ويولد الطلع، يخرج الإنسان من تحت التراب كالشجرة الخضراء ليوم النشور…
ومن أعجب الأحاديث الواصفة لحركة البعث والنشور، ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “ما بين النفختين أربعون ـ قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال : أبَيْتُ! قالوا: أربعون شهرا؟ قال : أَبَيْتُ! قالوا : أربعون شهرا؟ قال : أبَيْتُ! قالوا : أربعون سنة؟ قال : أَبَيْتُ! ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال : وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظما واحدا، وهو عجْبُ الذنب منه خُلق ومنه يُرَكَّب الخلق يوم القيامة “(1). قال ابن حجر رضي الله عنه في شرح الحديث : “وكأن أبا هريرة لم يسمعها إلا مجملة، فلهذا قال لمن عينها له : “أَبَيْتُ ” بمعنى : امتنعت عن بيان المعدود، أهو أربعون يوما، أم أربعون شهرا، أم أربعون سنة؟ لأنني هكذا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم مجملا من غير تفصيل.
ولا عبرة عندنا بذلك ههنا، وإنما العبرة هي بقوله صلى الله عليه وسلم :”ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل” وهو المفسر بدقة لما نحن فيه من قوله تعالى : { كذلك الخروج} وهو تشبيه من الدقة بمكان لأن الإنسان يصير بعد الموت إلى ذرة صغيرة، هي البذرة الدقيقة التي سوف يُستنْبَتُ منها مرة أخرى وهي ذرة كامنة في عَجْب الذنب كما في الحديث المذكور. وعجب الذنب هو الفقرة السفلية الأخيرة من العمود الفقري البشري، التي هي موضع الذيل من الحيوانات ذوات الذيول والذرة الكامنة هناك هي من الصغر والدقة بحيث لا تكاد تُرى بالعين المجردة ومع ذلك فهي تحتوي على كافة الأسرار الوراثية والتكوينية لكل إنسان في بدنه تماما كانطواء شجرة اللوز أو شجرة الجوز كلها في نواتها الصغيرة ففي هذه النواة الصغيرة تكمن جميع العناصر التي منها تتكون شجرتها، كالجذور، والأغصان، والأوراق، والأزهار، والثمار… فكذلك ذرة عَجْب الذنَب في الإنسان ولذلك فهي لا تبلى ولا تفنى أبدا إنها ذرة غير قابلة للتدمير، ولا للتخريب، ولا للاحتراق، ولا لأي نوع من أنواع الفناء والإفناء.