إطلاق كلمة الإله عن كل قيد يجعلها تنصرف إلى الله المعبود بحق الذي لا يُسْتغنى عنه بحال
إذا قلنا إلاه بغير تقييد فالظاهر أنه ينصرف إلى المعبود الحق الذي هو الله عز وجل، فالالاه بتقدير بعض العلماء بمعنى المألُوه، ومعنى هذا أن هذا الالاه مَأْلُوهٌ ومعْبود حُبًّا فيه، وخوفا منه. إن الله عز وجل يُرجع إليه، ويُحَب ويُخْضَعُ له ويُتذلَّل له، ويُعاد إليه، ويُفْزَع إليه، ويتوكَّـلُ عليه، ويعتمد عليه، ويُـرْجَعُ إليه، بمعنى أن المألوه المرجوع إليه المتوكل عليه، الذي تطمئن النفس إليه هو الله.
إن شئت قلت إن الفصيل ولد الناقة يأله بأُمِّهِ ويرجع إليها، ويَجْأر إليها، ويحن إليها، ولايكاد يُطيق بُعْدًا عنها لما قام فيه من الغريزة التي ترجعه إلى الناقة .
ولد الناقة، أو ولد بعض الحيوانات ترَونه من حولِ أُمّه، أمامها أو قبلها يتحرك ويبتعد، ثم يعود إليها أن الحيوان الصغير لايكاد يبتعد عن أمه كثيرا، فإن ابتعد فإن الشوق يحمله إليها، فإن رابه شئ يفزع إليها، فإن طارده أحدٌ يفر إليها، فإن أحس بخطر عاد إليها فهو دائما إليها راجع، إن جاع رجع إليها، إن برد وجد الدفء عندها، إن أراد الاستراحة رجع إليها، لاحظوا هذه العلا قة جيدة، فهي مُفهِمه لعلاقة العبد مع خالقه، فأنت إذ تقول أن الله إلا هي، فهذا، معناه أنه معبود، أنه محبوب، أنك تجله، أنك تطمئن إليه، أنك ترجع إليه، أنك تتصل به، إنك لا تريد بعداً عنه.
فالشهادة ب<لا إله إلا الله< ليس معناها الاعتراف لله بالوجود، في عقيدتنا نحن، الله ليس بحاجة إلى شهادة اعتراف بوجوده، فالكون كله شاهد على وجود الله، إن نبضات قلبك تشهد رغما عنك بأن الله موجود، إن دماغك وحركته التي لاتتحكم فيها تشهد بأن الله موجود. إن الازهار من حولك إن الأشجار، إن الجبال، إن الظواهر الطبيعية كلها شاهدة بأن لهذا الكون خالقاً موجوداً هو الله، إذن فالله ليس محتاجا منك إلى شهادة إثبات وجوده. إنما أنت الآن محتاج إلى شهادة تلتزم فيها وتلزم فيها، نفسك بمواقف، هي مواقف الرجوع والخضوع إلى الله تعالى، والاستمداد منه، والاطمئنان إليه بمعنى : أن شهادة لاإلاه إلا الله شهادة عليك، على سلوكك، على عملك الذي ستقوم به طبعا، فإن تحققت من هذا المعنى كانت لهذه الكلمة أثر في حياتك، يعني أن هذا المعنى معنى الانضباط بمقتضياتها هو الذي قامت عليه هذه الكلمة، لذلك كان الرجل في الجاهلية إذا قيل له قل لا إلاه إلا الله، كان يقدر هذه الكلمة قدرها، وكان يعلم أنه إن قال لا إله إلا الله فإن من مقتضياتها أن ينفصل عن عبادته السابقة، ومن مقتضياتها أن يكون راجعا إلى الله في كل شئ، في العبادة، و الحكم، والخلق، والسلوك، فمن هنا كان الصراع والخلاف في عهدالنبوة على شيء واحد هو : هل الله وحده يستحق العبادة وحده، ولا يشترك معه شيء؟؟ أم يمكن أن يكون له شركاء؟؟ وهل هو وحده له الحق في التشريع لخلقه لأنه أعلم بمصالحهم؟؟ ولهذا قالوا {أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشَيْء عجاب}(سورة ص)، الشاكون ما كانوا يناقشون محمدا في مقادير الزكاة ولا في كيفية الصلاة، كانوا يناقشون في المبدأ هل يلتزمون لاإله إلا الله بمعناها الكبير أم لايلتزمون؟؟ إذا قال لاإله إلا الله بالإخلاص المطلوب، بعد ذلك تأتي نتائجها وآثارها متتابعة منطقية.
كيف يعتبر الانسان مؤمنا من أهل لاإله إلا الله؟؟ وكيف يصير المجتمع كذلك من أهل لاإله إلا الله؟ هل بأن يجعل هذه الكلمة في رايته؟؟ في علَمِه؟؟ هل أن يرددها في بعض مناسباته؟؟ هل أن يكررها في بعض مواقفه بأن يجعلها شعارا جامعا بغير فائدة، وبغير نتيجة؟؟
لا، إن هناك خطوات وهنالك مراحل ضرورية تجعل هذا المجتمعوهذا الفرد مؤمنا، حينما توجد فئة من الناس تُقِر بأنها ستدين لله عز وجل بالعبادة، وتدين لله عز وجل بتنظيم حياتها وفق لا إله إلا الله حينذاك يؤسس لوجود الأمة الاسلا مية، لا بد من هذه الخطوات، أي لابد أن توجد فئة، أو فرد يؤمن بالعقيدة وبكل مقومات العقيدة: بالله، بملائكته، برسله، بالحوض، بالجنة، بالنار، بالمعجزة… أي حينما يستجمع كل فردٍ وجِيلٍ هذه الآراء، وهذه الأفكار ، وهذه الأسس، ولايعترض على شئ منها، يكون قد خطا الخطوة الأولى نحو وجود إنسان من أهل لاإلله إلا الله، أو مجتمع مؤسَّسٍ على لاإله إلا الله، حينما يتوجه هذا المجتمع أو هذا الانسان بعبادته لله ولايصرفها إلى غير الله عزوجل فردا أو مجتمعا يكون قد استجمع أيضا شرطا آخر هو شرط الخضوع والعبادة لله عز وجل.
الصلاة بإشاراتها وحركاتها ترمز للخضوع لله عز وجل
الدور الأساسي للعبادة هو تعبيدُ هذا الانسان وإخضاعهُ لربه الذي خلقه، أي العبادة هي مواقيتُ معينة لإظهار الخضوع في مجالات تريد النفس أن تنفعل فيها بذاتها، وتريد النفس أن تَتَحَرّر فيها بنفسها، بمعنى أن العبادة ليستْ ترمزُ في الحقيقة إلا إلى أمر مهم عظيم هو الخضوع لله عز وجل، فأنت في صلاتك تؤدي أفعالا هي إشارات للخضوع، لماذا ترفع يديك؟ لماذا تركع؟ لماذا تسجد؟ هل ينتفع الله بسجودنا نحن؟ هل الله عز وجل يعجبه ان نكون نحن راكعين؟ من ينتفع بذلك؟.
المنتفع من العبادة والخضوع لله تعالى
هو نحن حيث تنصلح أحوالنا
هذه الأشياء هي في خدمتنا نحن، إنها علامات ورموز على نهاية الطواعية والخضوع لله، بمعنى أنك إذا بحثت في الصلاة وجدت أن جميع ماخضع به البشر حديثا وقديما كله متضمَّنٌ في الصلاة، الناس إذا خضعوا أمام الزعماء والرؤساء فإنهم يقفون في استقامة. ألاترى الجندي الذي يقف أمام الضابط الكبير واضعا يده على خصره مثلا، أيعتبر جنديًّا مطيعا؟! أبدا، إن ذلك يعتبر منه تمرداً على رئيسه، وسوءَ أدب، وذلك يوجب طرده، أو سجنه.
إذن فلابد أن نقف أمام ربنا غير عابثين، نقف في صفةٍ هي أشبه ما تكون في حالة الموت، فنحن لانعبت بلحانا، ولا نفرقِعُ أصابعنا، ولا نتجوَّلُ برؤوسنا، ولانلتفت يمينا ولايسارا، إذا كنا نصلي صلاة شرعية، أي نمثل أمام الله مثولا، ونقف ضارعين كما يقف هذا المرؤوس أمام رئيسه، إذن فالوقوف والاستقامة مظهر من مظاهر الخضوع قديما، والركوع والسجود كذلك، كان الناس قديما يخضعون لرؤسائهم وزعمائهم وأوثانهم عن طريق وضع يدهم على صدورهم والانحناء والانكفاء، فضُمِّنَت الصلاةُ هذا الفعل. وقد يبلغ الانسان نهاية الخضوع في حالة من الهلع والخوف مثلا إذا سمع أنه متوعَّدٌ بالعقاب، وأن هذا الأمِير أو هذا المَلِك يريد أن يقتله، فإذا سنحت له فرصة ليعتذر إليه ويرجوه الصفح عنه، ربما سَجَد وقبَّلَ رجْلَه تضرعا، فيكون هذا فيه مظهر لنهاية الخضوع.
إذن هذه الأشياء في الصلاة كلها قائمة، ونحن نفعل ذلك مراتٍ ومرات لله عز وجل، إذن فالصلاة، بل هي مجْمع ومُرْتَكَزُ الخضوع إن لم نقل خلاصة الخضوع، ولذلك مُنِحْنا هذه الرموز والاشارات لله عز وجل، وعَبَّرْنا بها عن خضوعنا وتذلُّلِنا رِضًى منَّا بهذا الأمر، واقتناعا منا بأن الله تعالى أهْلٌ لأن يُخضع له، وأن يُسْجَد له، وأن يركع له.
كان الناس قديما يشعرون بقيمة هذه الرموز، ويُذْكر في بعض السفرات التي قام بها بعض العلماء ومنهم أبو بكر الباقلاني رحمه الله، حينما سافر إلى بعض بلاد العجم وقيل لذلك الحاكم إن هذا الشخص لن يقف لك كما يقف الناس أجمعون بخضوع، ولن يستقبلك وهو خاضع، وكان هذا الانسان الحاكم يريد أن يُخْضِع هذا العالم الذي كان سيستقبله، فأوحى إلى حرسه بخطة، وذلك بوضع خشبة عند الباب تلزم الداخل بالانحناء، فأذن لهذا العالمبأن يدخل، وبينما هو داخل فاجأه منظرُ الخشبة المعترضة في الباب، وحتى يدخل هذا الباب لابد له أن يطأطئ رأسه ليمر تحت الخشبة، ويكون في هذا دليلُ الخضوع، لكن هذا الرجل كان ذكيا جدا وكان فطناً، وكانت له بداهة، فحينما رأى المشهد أدرك في التو واللحظة. إنها حيلة مدبرة لاخضاعه، فدخل من الباب غير مستقبل الحاكم ولكن مستدبِره، فقال الحاكم : أردنا أن نخضعه فاستقبلنا بدبره.
فهذه رموز وعلامات قائمة، والعالم الآن هو عالم الرموز.