مقدمة
في ثمرات العمل الصالح وآثار العلم النافع
لا يتم كمال الإنسان إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، فهما طريقا الهدى ودين الحق، وليس هناك غيرهما. فقوة العلم ترسخ الإيمان وتوهج نوره، والدأب على العلم الصالح يكمله، وكلاهما يتطلب صبرا وحلما، وإلا كان مآل عمل بني آدم البوار ونهايته الخسران، فقد قال الحق سبحانه في سورة العصر : {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق والتواصوا بالصبر}.
وبهذا يزيد إيمان المسلم وينقص بحسب علمه النافع وعمله الصالح، فقد أجمع أهل العلم والسلف الصالح على أن الإيمان ينقص بالمعاصي ويزيد بالطاعات.
ومن أوتي هذين القطبين العظيمين فقد أوتي خيرا كثيرا، وعاش حياة طيبة وأجزي أحسن الجزاء. قال سبحانه: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل: 97).
ولا يقوى هذان الجانبان إلا بتزكية النفس لتصبح قابلة لهما مقبلة عليهما منفتحة على كل ما ينميها، وجعل سبحانه لهذه التزكية آثاراً مشاهدة لذيذة تفوق لذة المعصية، يرتاح إليها القلب، كما جعل للركون إلى المعاصي آثاراً مشاهدة على النفس والجسد معا من ضعف وحزن وغم وهم، قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : >إن للحسنة نوراً في القلب وضياء في الوجه، وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوءا في الوجه، وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق<(1).
هذه هي ثمرات العمل الصالح وآثار العلم النافع. وأهل المعرفة والبصائر يدركون ما لتزكية النفس من هذه الآثار القيمة، فيها تصفو النفس وتستعد للمعارف والقلب ينور بنور الفراسة، قال سبحانه: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} (الحجر: 75)، وفي سنن الترمذي من حديث أبي سعيد الخذري ] أن النبي قال : >اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل< ثم قرأ : {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} قال مجاهد : المتفرسين، وقال عبد الله بن عباس : الناظرين، وقال مقاتل : المتفكرين.
وكل من الفراسة والنظر والفكر يؤدي إلى إدراك آيات الله تعالى في خلقه، فتثبت على البصيرة بكل تفاصيلها، فتأتي بذلك معرفة حقائق الأشياء ومزاياها وخصائصها.
فالتزكية تؤدي إلى الطهارة والطهارة إلى الصفاء، والصفاء يؤدي إلى تقبل ما أتى به الرسل والأنبياء فتتفتح النفس إلى النور، وكلما زاد النور زاد توهج القلب والعمل حتى يريا جواهر الأشياء وحقائقها، ومن لم يتزك لم تتطهر نفسه ولم تصف بل رانَتْ، وإذا ران فيها القلب والعمل انحجبت عنها الحقائق بل وانقلبت الآيات لديها، فما كان باطلا بدا حقا وما كان حقا بدا باطلا، والحق سبحانه وتعالى يقول : {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}(المطففين : 14)، وقال سبحانه كذلك : {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا}(الأعراف : 146).
التزكية: تعريفها وطرق تحصيلها:
تفيد التزكية في معناها الطهارة والبركة والصلاح والتنعم، ومادة زكا، يزكو وزكي، يزكي تفيد معنى النماء والطهارة لقوله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}(التوبة : 103)، كما وردت في آيات كثيرة بالمعاني السابقة الذكر منها :
- {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً} (النور: 21).
- {قد أفلح من زكاها} (الشمس: 9).
- {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم: 32).
- {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم} (البقرة: 151).
- {ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم} (آل عمران: 77).
- {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} (النساء: 49).
وكذلك في الآيات : طه 76، الأعلى 14، النازعات 18، آل عمران 169، الليل 18، عبس 3، البقرة 232، الكهف 19، النور 28، مريم 19، الكهف 74، النور 30.
وقد وردت في أحاديث كثيرة منها قوله: >اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها<(أخرجه مسلم والإمام أحمد والترمذي).
من الآيات الكريمة والحديث النبوي الشريف يتجلى أن التزكية عامل قوي وأساس مكين لتطهير النفوس من الضلال والشرك، وهذا ما عناه سيدنا ابراهيم وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت حيث يقول : {وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت السميع العليم} فتحقق دعاؤه بأن بعث في هذه الأمة من يطهرها من أدناس الشرك والضلال ويرفعها إلى مقام الإيمان والصفاء والتوحيد.
كما أن الرسل والأنبياء جميعهم إنما بعثوا لأجل تزكية النفس أولا، وجعلها ترتقي في مدارج الكمال للوصول بها إلى أعلى مراتب السمو والصلاح، وفي هذا قوله تعالى : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجمعة : 2) والنفوس الراقية الصالحة هي التي جبلت على التزكية والطاعات والأعمال الصالحة، لقوله تعالى : {قد أفلح من زكاها} وفي المقابل يكون الخسران حليف النفوس المريضة التي ألفت المعاصي، وإلى هذا تشير الآية الكريمة : {وقد خاب من دساها}(الشمس : 10) ومعنى ذلك قد دس العاصي نفسه في المعاصي وعمل على إخفاء مكانها والتواري عن الخلق من سوء أفعاله.
أهمية التزكية في حياة المسلم: طرقها ووسائلها:
إن الله تعالى خلق هذه النفوس ملهمة بالتقوى والفجور، ولكنه سبحانه أمر بتزكية جانب التقوى فيها، لأن تزكية هذاالجانب يؤدي بها إلى الفلاح والنجاة فقال سبحانه : {قد أفلح من زكاها}، وحتى ترجح كفة التقوى على كفة الفجور هناك وسائل وطرق مختلفة :
أولها : حمل النفس على الطاعات والميل بها عن المعاصي، فمتى تروضت على ذلك أصبحت وكأنها مجبولة على ذلك ويكون ذلك :
- بكثرة الذكر، والانصراف إلى معرفة الأوامر والنواهي، فمعرفة الأحكام رأس الحكمة، من تعلم القرآن والسنة، ولأن تعلمها من ذكر الله، أما نقرأ قوله تعالى : {.. ولذكر الله أكبر}(العنكبوت : 45).
أثر الذكر على القلب والعقل:
ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وأحمد والحاكم أن رسول الله قال : >ألا أخبركم بخير الأعمال وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقه ويضرب أعناقكم قالوا : بلى يا رسول الله! قال : ذكر الله< وقد جاء في شرحه عند الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 156 : >فيه دليل على أن الذكر خير الأعمال على العموم<.
وذكر الله تدخل فيه كل أنواع الطاعات من طلب علم وتلاوة قرآن وتسبيح واستغفار وانصراف إلى أعمال البر وصلاة على المصطفى ، كما أن ذكر الله شامل لأعمال الجوارح من ذكر باللسان وبالقلب وبهما معا.
وللذكر آثار جليلة على القلب، فهو يمحو ما علاه من أدران، وما اعتراه من المعاصي والذنوب، فجلاؤه يتم بمداومة الذكر، فقد ورد عن أبي الدرداء ] أنه قال : >لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل<(2)، وقد نصح أبو الحسن البصري لمن شكاه قسوة قلبه أن يذيبها بذكر الله.
ومن أعظم كلمات ذكر الله كلمة التوحيد -لا إله إلا الله-، فقد جاء في الأثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى : {قد أفلح من زكاها} من قال : لا إله إلا الله، وقال : >إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، فقيل : يا رسول الله، وما جلاؤها؟ فقالتلاوة القرآن وذكر الموت<(أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
أما الصلاة على خير البرية فخير ما يطمئن القلب ويسكنه ويقوي العزيمة ويشحذ الذهن لأن الله تعالى أمر بذلك فقال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} وقال : >صلوا علي فإنها زكاة لكم<(أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
وأثر الذكر على العقل عظيم، لأن الحق سبحانه أمر عباده باستعمال العقل على أحسن وجوهه، وعلى أفضل طرقه، وذلك بالتفكر والتدبر، فقال سبحانه : {أفلا يتدبرون القرآن} (البقرة : 215)، لما في التدبر من فوائد جمة، وذم الغافلين الذين لا يفقهون ولا يتفكرون ولا يعقلون في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، قال سبحانه : {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}(البقرة : 219) وقال كذلك : {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون}(الأنعام: 50)، وكذلك : {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض}(آل عمران : 191)، وقد ورد لفظ يتفكرون وتتفكرون إحدى عشرة مرة في كتابه العزيز، وورد لفظ ‘تعقلون” أربعا وعشرين، و”يعقلون” اثنتين وعشرين مرة، وكذلك بصيغة “عقلوه ونعقل ويعقلها” مرة واحدة، أما “يفقهون” فقد ورد لفظها ثلاث عشرة مرة، و”تفقهون’ مرة واحدة، و”نفقه” مرة واحدة و”يفقهون” ثلاث مرات، أما لفظ “يتدبرون” بمعنى التفكير العميق المستنير فحوالي أربع مرات، وبهذا يكون الحق سبحانه وتعالى قد حث على التفكر واعتبره وسيلة عظمى لإدراك المقاصد النافعة.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في مدارج السالكين : “التذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم، قال الحسن البصري : >ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر، وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت>(3).
فالذكر يروض العقل على التفكر والتدبر اللذين بهما يقوى ويشحذ، فيغوص في استنباط المعاني، والالتفات إلى الآيات الإلاهية الباهرة والاعتبار بأحوال الأمم، كما تتسع دائرة التفكير -كما يدعو إلى ذلك كتاب الله- فيشمل كل الحقائق سواء أتعلق الأمر بالإنسان نفسه وجوانبه البيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية، وسواء أتعلق الأمر بالدنيا أم بالآخرة، أم بالكون كله وحتى بحقيقة الألوهية، فقد برهن الله سبحانه على وجوده وقدرة خلقه للسماوات والأرض وما فيهما ومن فيهما وما بينهما بطريقة ترتاح إليها فطرة الإنسان، ولذلك ينجذب فيؤمن بأن الله واحد أحد قهار صمد سبحانه. وبتدبر القرآن تدرك الحقيقة، إذ أن التفكير السليم لا يكون إلا عبر القرآن، أنه أسلم وأَأْمَنُ طريق لإدراك ذلك، أما طرق المعرفة الأخرى لإدراك الحقائق فهي تبع لاحقة له، ولهذا سمى الحق سبحانه القرآن روحا، لأنه باعث للحياة، فبقراءته وتدبره تحيى النفوس والأجساد فتهتدي إلى الحق، وبدونه ميتة بعيدة عن الحقاق تائهة ضالة على غير هدى. قال سبحانه: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}(الشورى ؛ 50)، ففي القرآن جماع الحقائق، ولهذا قال سبحانه : {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} (الزمر : 26).
إذن فالتفكر أو التدبر له أثر كبير على النفس الإنسانية فهو إصلاح لها وتثبيت للقلب على الإيمان وتقوية وتنوير للعقل وإحصان له من الزلل والتيه والضلال، وهو طريق إلى كل خير ما دام مقيدا بأوامر الشرع ونواهيه، وهو خير زاد للتقوى وخير تزكية للنفوس.
———–
1- مدارج السالكين 152/3.
2- مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية، ص 2/258.
3- مدارج السالكين، ابنقيم الجوزية، ص 1/474.