يقوم فقه الدعوة عند العلامة أبي الحسن الندوي على ركائز وأسس تبلغ العشرين، منها ينطلق، وإليها يستند، وعليها يعتمد، نجملها هنا، ونفصلها فيما بعد إن شاء الله.
1- تعميق الإيمان في مواجهة المادية :
أولى هذه الركائز : تعميق الإيمان بالله تعالى، وتوحيده سبحانه : ربا خالقا، والها معبودا، واليقين بالآخرة، دار للجزاء، ثوابا وعقابا، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلها يدبره ويحكمه، وإن في الانسان روحا هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة، المادية التي تقول : إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع! ولا شيء بعد ذلك. أو كما حكى الله عنهم : {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}(الأنعام : 29) وقد تخللت هذه الركيزة الفكرية المحورية معظم رسائله وكتبه، وخصوصا : الصراع بين الإيمان والمادية.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرية الغربية.
2- إعلاء الوحي على العقل :
وثانية هذه الركائز : هي اعتبار الوحي هو المصدر المعصوم، الذي تؤخذ منه حقائق الدين وأحكامه، من العقائد والشرائع والأخلاق، واعتبار نور النبوة فوق نور العقل، فلا أمان للعقل إذا سار في هذا الطريق وحده من العثار، ولا أمان للفلسفات المختلفة في الوصول إلى تصور صحيح عن الألوهية والكون والانسان والحياة، حتى الفلسفة الدينية أو علم الكلام حين خاض هذه اللجة غرق فيها. وقصور العقل هنا شهد به بعض كبار المتكلمين كالفخر الرازي، والآدمدي وغيرهما، وبعض كبار الفلاسفة، وأحدثهم (كانت). وكذلك فلسفات الاشراق لم تصل بالانسان إلى بر الأمان. وقد بين ذلك الشيخ الندوي في عدد من كتبه منها : النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، ومنها : الدين والمدنية، وأصله محاضرة القاها في مقتبل الشباب (في الثلاثين من عمره).
3- توثيق الصلة بالقرآن الكريم :
والركيزة الثالثة : هي توثيق الصلة بالقرآن، باعتباره كتاب الخلود، ودستور الاسلام وعمدة الملة، وينبوع العقيدة، وأساس الشريعة، وهو يوجب اتباع القواعد المقررة في تفسيره وعدم الإلحاد في آياته، وتأويلها وفق الأهواء والمذاهب المنحولة، ولهذا أنكر على القاديانيين هذا التحريف في فهم القرآن.
ومن قرأ كتب الشيخ وجده عميق الصلة بكتاب الله، مستحضرا لآياته في كل موقف، محسنا الاستشهاد بها غاية الإحسان، وله ذوق منفرد في فهم الآيات، كما أنه له دراسات خاصة في ضوء القرآن مثل : تأملات في سورة الكهف (التي تجلي الصراع بين المادية والإيمان بالغيب) والنبوة والأنبياء في ضوء القرآن.. ومدخل للدراسات القرآنية.. وغيرها من الكتب والرسائل، وقد عمل مدرسا للقرآن وعلومه في دار العلوم بلكهنو عدة سنوات.
4- توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبوية :
والركيزة الرابعة : هي توثيق الصلة بالسنة والحديث الشريف، والسيرة النبوية العاطرة باعتبار السنة مبينة القرآن وشارحته نظريا، وباعتبار السيرة هي التطبيق العملي للقرآن، وفيها يتجلى القرآن مجسدا في بشر(كان خلقه القرآن) وتتجلى (الأسوة الحسنة) التي نصبها الله للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، لهذا كان المهم العيش في رحاب هذه السيرة، والاهتداء بهديها والتخلق بأخلاقها، لا مجرد الحديث عنها، باللسان أو بالقلم.
وقد بين الشيخ أثر الحديث في الحياة الاسلامية، كما أبدع في كتابة السيرة للكبار والأطفال، وهنا هنا يجمع بين عقل الباحث المدقق، وقلب المحب العاشق، وهذا يكاد يكون مبثوثا في عامة كتبه.
5- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية) :
والركيزة الخامسة : هي إشعال الجذوة الروحية في حنايا المسلم، وإعلاء (نفحة الروح) على قبضة الطين والحمأ المسنون في كيانه، وإبراز هذا الجانب الأساسي في الحياة الاسلامية التي سماه الشيخ (ربانية لا رهبانية) وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة. وقد سماه بهذا الإسم لسببين :
أولهما : أن يتجنب اسم (التصوف) لما علق به من شوائب، وما ألصق به من زوائد، على مر العصور، وهذا من (جناية المصطلحات) على الحقائق والمضامين الصحيحة. وما التصوف في حقيقته إلا جانب(التزكية) التي هي إحدى شعب الرسالة المحمدية، أو جانب الإحسان الذي فسره الرسول في حديث جبريل الشهير.
والسبب الثاني : إبراز العنصر الإيجابي في هذه الحياة الروحية المنشودة، فهي روحية اجتماعية، كما سماها أستاذنا البهي الخولي رحمه الله، وهي ربانية ايجابية تعمل للحياة ولا تعتزلها، ولا تعبدها، وتجعل منها مزرعة للحياة الأخرى، حياة الخلود والبقاء.
كما وضح الشيخ الندوي الجانب التعبدي الشعائري في حياة المسلم في كتابه المعروف(الأركان الأربعة) وهو يمثل نظرة جديدة في عبادات الاسلام الكبرى : الصلاة والزكاة والصيام والحج، وآثارها في النفس والحياة.