ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن التنمية في بلدان “العالم الثالث” عامة وبلدان العالم الإسلامي، أصبحت الاشكالية المحورية التي تستدعي التأمل العميق والتفكير الجدي المسؤول أكثر من أي وقت مضى، فهذا المفهوم لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على هذه البلدان منذ زمن بعيد، وأصبح هاجسا لا شعوريا يحرك الأجيال، ويغذي آمالها نحو مستقبل أكثر انعتاقا ورفاها. غير أن هذه التنمية المفروضة لم تجن من ورائها الشعوب إلا مزيداً من التخلف والتبعية. فما هي التنمية؟ وماهو السر في فشل المشاريع التنموية؟ ثم أية تنمية تحقق التنمية المنشودة؟
1- التنمية لغة واصطلاحاً :
أ- على مستوى اللغة جاء في لسان العرب أن : نمي، النماء، الزيادة، نمى ينمي نمياً ونُميّاً ونماء : زاد وكثر، وربما قالوا ينمو نموّاً… وكل شيء رفعته فقد نميته … لهذا قيل : نمى الخضاب في اليد والشعر إنما هو ارتفع وزاد فهو ينمي، وكل ارتفاع انتماء، ونميت النار إذا ألقيت عليها حطبا وذكيتها به ونميت النار رفعتها واشبعت وقودها، والنماء: الريع.
وهكذا فالتنمية في أصلها اللغوي تعني : الزيادة والكثرة، والارتفاع والاذكاء والاشباع وكذا الريع، ومدلولها اللغوي لا يحمل معنى سلبيا بل السلبية والايجابية معنى إضافي يأتي من الذات، كما أن التنمية تختلف عن النمو من حيث أن هذا الأخير يكون تلقائيا في وقت تكون فيه التنمية صادرة عن إرادة ومشيئة ومجهود.
ب- على المستوى الإصطلاحي : ويلاحظ في هذا المستوى أن التنمية حظيت باهتمام كثير من الدارسين جعل تعاريفهم لها تختلف باختلاف انتماءاتهم الايديولوجية، ومشاربهم الفكرية. وهو ما خلق صعوبة تعريفها تعريفا علميا دقيقا.
وهذه الصعوبة تأتي من كون مفهوم التنمية من مفاهيم العلوم الانسانية التي تتداخل فيها الذاتية والموضوعية، الايديولوجية والعلم، ثم النسبية والحتمية، تداخلا كبيرا تغيب فيه خصائص كل طرف من أطراف الثنائيات المذكورة.
وبتتبعنا أيضا للمسار التاريخي لهذا المفهوم نلاحظ أنه ارتبط أولاً بما هو اقتصادي محض، ثم امتزج بما هو اجتماعي، وسياسي وثقافي، وهي تعاريف تنطلق من الأرضية الفلسفية الغربية في تصورها للانسان على أنه أبعاد وأجزاء منفصلة ومتمايزة : اقتصادي، نفسي، اجتماعي، تاريخي… دون مراعاة وحدة الانسان وكليته، والحق أن ليس هناك انفصال بين هذه الابعاد، فالانسان كل ووحدة فليس هناك وحدة نفسية مستقلة عما هو اجتماعي أو اقتصادي أو العكس.
وفي هذا المستوى الاصطلاحي نكتفي بسوق واحد من التعاريف، ووقع اختيارنا على تعريف هيأة الامم المتحدة للتنمية باعتباره التعريف المفروض علينا حتما في هذه الآونة. والتنمية في هذا التعريف هي النمو مع التغير، والتغير اجتماعي، وثقافي واقتصادي، وهو تغير كمي وكيفي ولم يعد من الضروري أن نتكلم عن تنمية اقتصادية وتنمية اجتماعية لأن التنمية بوصفها متمايزة عن النمو يجب أن تشمل الناحيتين معاً بشكل تلقائي. فالمشلكة في رأي الامم المتحدة ليست النمو الاقتصادي والزيادة المادية فحسب، بل يجب أن يتبع ذلك نمو خلقي معنوي ونفسي أي نمو اجتماعي.
2- أية تنمية بدون إيديولوجيا؟
لم تعد التنمية في برامج الأمم المتحدة، تنمية اقتصادية بل تنمية تهدف إلى خلق تغيير جذري في المجتمع في بنيته التحتية والفوقية معاً حسب التعبير الماركسي، وهذا ما جعل البعض يعتبر هذا النوع من التنمية صورة من صور التغيير الحضاري. وإزاء هذا نتساءل : أين هي الحدود الفاصلة بين ما هو تنموي علمي تقني، وبين ما هو إيديولوجي فلسفي ثقافي؟ ثم أية تنمية بإمكانها إلغاء التبعية ليس فقط الاقتصادية بل وأيضا الفكرية والحضارية؟
بالنظر إلى الفضاء المعرفي الذي يؤطر مفهوم التنمية الذي هو فضاء المعرفة الانسانية يؤكد الدارسون على تداخل ما هو إيديولوجي وما هو تنموي، إلى حد جعل البعض يقرن بين التنمية والايديولوجيا ويسميها : “ايديولوجيا التنمية” ومن ثم كانت البرامج التنموية تكريسا لمزيد من التبعية المطلقة لدول المحور، ومحواً لكل حي دينامي في حضارة التابع، الأمر الذي دفع بصاحب كتاب “تهافت ايديولوجيا التنمية والتعاون الدولي” إلى القول >إن الضرورة تقتضي القيام بعملية كشف خداع مزدوجة، فمن ناحية، كشف خداع مفهوم الانماء في “النمط الغربي” أو “النمط البولشفيكي”… ومن ناحية أخرى كشف خداع في مفهوم التخلف كمجرد تأخر في إطار مسيرة ذات مراحل باتجاه التقدم<
إذاً لماذا نادى الكاتب بضرورة كشف الخداع؟ فالخداع عملية تمويه يُلْبس فيها الباطل لبوس الحق، والكشف تعرية للباطل على الوجه الحقيقي، وهو في سياق المقال تعرية الخطاب التنموي الغربي بشقيه الليبرالي والماركسي، وكشف زيفهما وتهافت ايديولوجيتهما، فالكاتب يؤمن بضرورة كشف الخداع، وفصل الايديولوجيا عن العلم، والذاتي عن الموضوعي.
إن إيديولوجيا التنمية، وهي نتاج العقلية الغربية وكل النماذج والبرامج أو التوجهات التنموية والتي غالبا ما صدرت عن بيروقراطيات وكالات الامم المتحدة، وإما عن تقارير الخبراء الذين تنتدبهم مؤسسات المساعدة المرتبطة بالبلدان المصنعة، وإما عن “الانجيل” الماركسي، لم تلحظ إلا مصالح الدول الكبرى في برامجها تلك، وما يؤكد هذا الأمر النتائج التي أدت إليها كل البرامج التي طبقت في العالم الثالث فلم تثمر إلا زيادة في فقره وتخلفه وانتشار أبشع الظواهر الاجتماعية والخلقية (السمورف، الهيبيزم، المخدرات، الشذوذ الجنسي، الأمراض الفتاكة، الضياع والتسكع…) في وقت ازداد تقدم العالم الغربي وتنامت قدراته واستحكمت هيمنته.
وخلاصة القول فإن التنمية، كما يقول مالك بن نبي، لا تشترى من الخارج بعملة أجنبية غير موجودة في خزينتنا، فهناك قيم اخلاقية واجتماعية وثقافية لا تستورد، وعلى المجتمع الذي يحتاجها أن يلدها، والتنمية من تلك القيم، إنها لا تستورد، بل تصنع في المكان نفسه.