صور من حياة العلماء


هذه المحاضرة ألقيت في ندوة دراسية حول موضوع : “المؤسسة العلمية : واقع وآفاق” التي نظمتها جمعية الرشاد للتربية والثقافة بمقر أكاديمية فاس بطريق صفرو.

ماذا عساني أن أقول عن جهاد العلماء؟! العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حملة الوحي، العمود الفقري للرعاة والرعية، يقوّمون هذا ويسددون ويوجهون هذا، ماذا أقول عن الذين تذوقوا معاني الكتاب ومعاني السنة؟ تذوقوها وسرت حلاوة الوحي في كل خلية من خلاياهم، فوهبوا حياتهم كلها لإعلاء كلمة الله سواء في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في مواجهة الطغيان والظلم والعتوّ الذي يبدو من بعض الحكام أو على جبهة الجهاد ضد الكافر المغير. ما أستطيع أن أقول عن الكواكب التي تضيء الدروب، عن الكواكب التي لا تغيب، ولئن كان اللوم أحيانا يطغى ويُسلط على العلماء فلا أُبرّىء ذمة العلماء، ولكن ينبغي أيضاأن نوجّه اللوم للرعية، فالوسط والبيئة المؤمنة الصالحة هي التي تنتج العلماء الأبرار، العلماء المجاهدين، العلماء المخلصين، فإن للبيئة تأثيرا قويا على العالم، فحينما كان العالم يقوم بكلمة حق ويؤذى كانت الجماهير تقوم ولا تقعد دفاعاً عن العالم دفاعا عن عرضه، ودفعاً عن حياته، حتى تعود له كرامته وعزته، أما الآن وقد صارت الرعية الخائفة المتردية، الضعيفة إيماناً، صارت تقول في حق من يقول كلمة الحق ويُبتلى (هو مادخلش سوق راسو، هو جبد البلا على راسو، هو فوّت بزاف) هذه الرعية لا تشجع العالم، لا تحميه، لا تذود عنه، لا تنبت إلا النفاق والخوف، فإن ظهر عالم يقتدي بسيرة السلف الصالح فذلك من فضل الله عز وجلّ ولا فضل للرعية عليه، أقول هذه الكلمة، لا أقولها دفاعاً عن حرمة العلماء ولكن بيانا للواقع المرّ الذي يعانيه العلماء وتعانيه الرعية، والرعاة أيضا، وكلمتي هذه ما هي إلا لمحات وإشارات، فمن يستطيع أن يتحدث عن جهاد العلماء، من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيّد العلماء إلى يومنا هذا؟ من يستطيع أن يقف أمام كل أشكال الجهاد : جهاد القلب وجهاد اللسان وجهاد اليد، أو هذه الأشكال كلها، لا أحد يستطيع إلا إذا كانت هناك نية لإعادة مثل هذه الندوة عشرات المرات، فمن هم العلماء؟ الذين أثروا في الحياة باللسان والقلم والقدم والمال والرماح، إنهم هم الذين هداهم الله إلى أسرار الكتاب والسنة، وتيقنوا أن العلم يوجب العمل، وذاقوا حلاوة الممارسة فازدادوا علما وإيمانا وثباتا، هؤلاء هم العلماء {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، وهنا أقول : ليس كل من استوعب كثيراً من المعلومات دون أن يتذوق حلاوتها، ولم يحسن إنزالها على الواقع ولم يتذوق حلاوة الممارسة، أقول : لقد كان سهيل بن عمرو في صلح الحديبية أحسن فهماً منّا، حينما كتب علي بن أبي طالب “هذا ما عاهد عليه محمدٌ رسول الله.. قال : لو كنا نؤمن أنك رسول الله لاتبعناك.

ألسنا نقول -نحن- محمداً رسول الله؟ فهل نتبعه فيما جاء به؟ في كم سُنّة نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو كان الإحصاء كمّيا)؟ هذا سهيل مشرك (قبل أن يسلم) قال : لو كنا نؤمن أنك رسول الله لآمنا بك واتبعناك، ففهمه أحسن من فهمنا.

على العلماء بالصفات المذكورة مسؤوليات عظيمة، إن أحسنوا أداء تلك المسؤوليات أثابهم الله وأعزهم وأكرمهم، وإن أخلّوا حاسبهم، من هذه المسؤوليات على العلماء : الحفاظ على تراث النبوة من الاندثار والانقطاع، ومن الاختلاط والالتباس والتشويه، وذلك :

-1 بقوة التحصيل وعمق الفهم، وحسن التطبيق ودوام الاجتهاد.

-2 تعليم الناس وتربيتهم بنقل آداب النبوة إليهم جيلا بعد جيل.

-3 الأمر بالمعروف بجميع وجوهه والنهي عن المنكر بكافة أشكاله.

-4 اختيار الحكام ونصحهم وإعانتهم على الحق وتقويم اعوجاجهم بحكمة الشرع، ليس من حق أيّ أحد أن يقوّم اعوجاج الحاكم، إن اعوجاج الحاكم يقوّم بالعلم والحكمة، وإلا أدى التقويم إلى ما لا يُقوَّم.

-5 دعوة الحكام إلى مجاهدة الكفار، والمشاركة في ذلك بالمال والنفس.

هذه مجمل مسؤوليات العلماء.

وهؤلاء العلماء بهذه الصفات يعيشون بين محنتين -غالباً- العلماء العاملون لا تخلو حياتهم من محنة الإكرام والإنعام، ومحنة الانتقام، فالحكام الذين لا يطمئنون ولا يرتاحون إلى العلماء المخلصين يحاولون، بأشكال الترغيب، أن يكسبوهم بالهدايا والمناصب والعطايا والمنح، فإن أفلحوا أسكتوا صوت الحق، وإلا التجأ الحكام إلى الأسلوب الثاني وهو أسلوب الانتقام، والأمر واضح كما تعلمون في حياة الإمام أحمد رضي الله عنه، قال للمتوكل : “كلاكما أوشك أن يُهلكني”، يقصد المأمون الذي عذبه على القول بخلق القرآن الكريم، وهي محنة الانتقام، والمتوكل أنعم عليه وأفرط عليه في الإنعام والاكراه فكاد يُسكته عن قول الحق.

ولكن فيما قرأت وفيما بحثت لم أجد صحابيا عُذّب في عهد الخلافة الراشدة من أجل الإسلام، لم يُعذب أحد العلماء بسبب إسلامه أو دعوته إلى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو إلى الجهاد، لم يبدأ تعذيب العلماء حتى انتهت الخلافة الراشدة : عُذِّبُوا على الإسلام وبسبب الإسلام.

إن للعلماء مواقف جهادية هي التي أبقتهم في النفوس وفي الأرواح ولو كانت جثتهم صارت تراباً فإن أسماءهم ومواقفهم وأعمالهم ماتزال صامدة، ما تزال ماثلة أمام الأعين لمن شاء أن يقتدي بالعلماء المجاهدين.

هذه -إخواني- أمثلة من جهاد العلماء، أمثلة عابرة خفيفة، نقف الآن خلال مراحل تاريخية متباعدة، نعود إلى الحجاح بن يوسف، بعد مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء، اعتاد الناس أن يقيموا ذكرى لقتل الحسين، وذلك التجمع مع البكاء والعويل واضطراب الرعية كان يخيف الحجاج، ففكّر كيف يسكت هذه الأصوات، وكيف يفرق هذا الجمع، وكيف؟ وكيف؟  فأعلن في الناس أن الحسين ليس من ذرية محمد بن عبد الله لأن أباه عليّ بن أبي طالب، والنسب لا يكون من الأم، أعلن في الناس هذا، ثم أعلن أن من يخالفه سيتعرض لأشد التنكيل، وفعلا : سجن وشرّد وعذّب كثيراً ممن خالفه، فإذا بخبر يرد عليه فتحدث له الرجفة : إن يحيى بن يَعْمر يجيب السائلين في المسجد بأن الحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الحجاح يحكم ولا حقّ له أن يُفتِي، هذا أحد العلماء. بلغ هذا الأمرُ الحجاج وعقد جمعاً كبيراً حضر فيه أهل يحيى والعلماء والملأ ومختلف طبقات الرعيّة، ودبّر له مكيدة يريد أن يفضحه على رؤوس الملإ، وبعد ذلك يتبعه بالعقاب، واستدعى يحيى فحضر يحيى وسلّم وأراد أن يجلس، فقال له الحجاج : لا تقعد يا يحيى وأوضح لنا رأيك في صلة الحسين برسول الله؟ فيرُدّ يحيى : الحسن والحسين من ذريةرسول الله، وإن غَضِبَ الحجاج. فيغضب الحجاج ويصيح : ألديك دليل من كتاب الله؟ فيرد يحيى في ثقة واطمئنان : معي الدليل من القرآن، فيضرب الحجاج كفّا بكفٍّ، ويقول متهجما : ماشاء الله! أفي القرآن ما يدل أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله؟! لقد قرأتُه مئات المرات فما وجدتُ ما تقول يا رجل. فيجيب يحيى بصوت مجلجل : يقول الله تعالى : {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء، إن ربك حكيم عليم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب، كلا هدينا، ونوحا هدينا من قبلُ، ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس، كلا من الصالحين}، ثم يلتفت يحيى إلى الجمهور قائلا : أيكون عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم بنص القرآن، ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله، وبينهما من القرابة الدانية (القريبة) أكثر مما بين عيسى وإبراهيم أيها الناس؟!

فابتسم الحجاج في تصنّع وقال : اجلس يا يحيى فقد فاتني هذا الاستنباط، وأخذ يفكر في شيء يستر به هزيمته، فجعل يتحدث عن عظمة القرآن وبلاغته وإعجازه وأنه هو الذي أمر يحيى بن يعمر بنقط القرآن الكريم، ورأى أن يجامل يحيى فاتجه إليه سائلا : أتجدني، يا يحيى ألحنُ في قولي؟

فابتسم يحيى متهكما وقال : الأمير أفصح من ذلك.

فقام الحجاج وصاح : إذن، عزمت عليك، أتجدني ألحن. فقال يحيى بملء فيه : نعم، أيها الأمير. فنظر الحجاج منبهراً، وقال : ألحن في أي شيء؟ فصاح يحيى : في كتاب الله. فذهب الحجاج مغضباً، وهو يقول : ذلك أسْوَأُ لو كان، ففي أي حرف لحنتُ، فردّ يحيى في تحدٍّ : لقد قرأت بالمسجد الجامع : {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم}، قال : فضممتَ الباء من (أحبَّ) وهي مفتوحة. فتغيّر وجه الحجاج وحدّثته نفسه بسوء، إلا أنه تراجع خوفاً من مغبَّة ذلك إذا بلغ الخليفة، وأحس بعض الحاضرين بشدة حرج الحجاج وضيق نفسه، فأحبّ أن يُنفّس عليه، وجعل يسأله، قال له : يا حجّاج، حدثنا عن مدينة واسط وعن جهودك في بنائها وإعمارها؟ فوجدها الحجاج فرصة سانحة والتفت إلى يحيى، قال له : يا يحيى لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط، فسكت يحيى ولم يردّ، وتوجهت العيون نحوه فأعاد الحجاج السؤال مغتاظاً، قال يحيى : أيها الأمير، ماذا أقول عن واسط، وقد شيَّدْتها من غير مالك، وسيسكنها غير أهلك، فصاح به الحجاج في انفعال : ما حملك على هذا؟ فقال يحيى : ما أخذَ الله على العلماء في علمهم ألاّ يَكتُمُوا الناس شيئا (ما موصولة، وليست نافية)، فأطرق الحجاج مُنْخَذِلاً، ثم صاح به : لا تُساكِنِّي ببلد أنا فيه، فاذهب منفيا إلى خراسان؟ فذهب يحيى بن يعمر إلى خراسان، ولكن ما إن وصل حتى وجد الناس يتحدثون عن مجابهته للحجاج مُكْبِرين مقدِّرين، ودنا منه سائل خراساني، وقال له : يا يحيى، ألم تخْشَ سيف الحجاج؟ فردّ يحيى بن يعمر في إيمان وثبات: لقد مَلأَتْنِي خشية الله فلم تدعْ مكاناً لخشية إنسان.. هذا وجه من جهاد العلماء.

وهذا القاضي المالكي أسَدُ بن الفُرات، اخترت المثال الأول لكلمة الحق عند سلطان جائر، وهذا المثال للعالم القاضي الذي يفتح الله على يديه بلداً كافراً، الشيخ المالكي أسَدُ بن الفُرات قاد جيشا عظيما لفتح جزيرة صقلية، فخرج على رأس الجيش في شهر ربيع الأول سنة 212هـ. وكان يوماً مشهوداً حيث خرج وجوه أهل البلد يشيعونه، لم يبق أحد من رجال الدولة إلا شيّعه، ولما ركب هذا العالم المجاهدُ السفينة، وسار في حفل عظيم من الناس تحفُّه حملة الأعلام والسيوف، قال مُنَوِّهاً بفضل العلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له والله يا معشر الناس ما وَلِيَ لِي أبٌ ولا جَدٌّ ولاية قطُّ، (يعني هذه القيادة التي ترونني فيها لم أرثها عن آبائي وأجدادي، فلم يكن أحد منهم ملكا ولا رئيسا ولا وزيراً) وما رأيت ما ترَوْن إلا بالأقلام (يعني : القلم) فأجْهِدوا أنفسكم وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكابِروا عليه وصابروا واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به الدنيا والآخرة.. هذه كلمة قالها قبل أن تنطلق سفن الجهاد، ثم ركب البحر ونزل في مدينة فَازَرْ من بلاد صقلية، والتقى الجمعان : جمع لا إله إلا الله : جمع التوحيد، وجمع الشرك. فحمل المسلمون على أعدائهم حملة شعواء، وهو على رأس الجيش الإسلامي (لم يكن يصدر الأوامر وهو بعيد عن جبهة القتال بآلاف الكيلومترات أو مئات الكيلومترات، هو حاضر وسط الجيش الإسلامي، يحرض المسلمين على القتال، قولا وفعلا) فدارت الدائرة على جيش الروم، ودكّ الحصون واستولى عليها، وحاصر سَرَكُوساَ (ربما الآن سَرَكُوسْطا) وفي أثناء الحرب أصيب أسد بن الفرات بجراحات بالغة سال منها الدم على اللواء الذي يحمله، سال دم الشهيد العالم على اللواء حتى فاضت روحه إلى ربّها راضية مرضية، هذا نموذج من العلماء المجاهدين بالكلمة والسيف، وقدّم مُهْجَتَه في سبيل الله.

وننتقل إلى الأندلس لنرى موقفا آخر أمام ذي سلطة وذي بطش، فهذا القاضي محمد بن بشير، رُفعت إليه قضية ضد الوزير ابن فُطَيْس (أو فَطِيس) فاستمع القاضي للمدعي، ثم استمع للشهود، بعد أن استوثق منهم، وبعد ذلك أبرم الحكم ضد الوزير، لأن الشهود شهدوا ضد الوزير، فأبرم الحكم، فطلب الوزير أن يعرّفه الشهود (قال : هؤلاء الذين شهدوا عليّ، عرّفني بهم لأن هذا من حقي) ولكن محمد بن بشير رفض ذلك، (أليس من حق الوزير شرعاً أن يعرف هؤلاء الشهود؟.. ولكن محمد بن بشير يعرف من هو ابن فطيس) فاستشاط الوزير غضباً، ورفع الامر إلى الخليفة الحَكَم بن هشام، مُتَظَلِّما يشكو محمد بن بشير القاضي،فكتب الحكم إلى القاضي يعاتبه. فقال له محمد بن بشير : ليس ابن فطيس ممن يُعرّف بمن يشهد عليه، لأنه إن لم يجد سبيلا لتجريحهم لا يتحرّج عن إيذائهم في أنفسهم وأموالهم، ولا يُعدم الوسيلة لذلك مما يُجبرهم على ترك الشهادة هُم ومن يتأسّى بهم، وبهذا، أيها الحكم، تضيع حقوق الناس وأموالهم. فأقرَّه الخليفة على ذلك.

إخواني : أنتقل إلى المغرب، إلى هذا الوطن العزيز، وأرجو ابتداءاً ألا أسأل عن الأسماء، لأن منهم من مات قريبا ومنهم من بقي على قيد الحياة، من علماء هذا الوطن.

حينما صدر الظهير البربري، أقامت فرنسا الحواجز بين العرب والبربر للفصل التام بين المواطنين، بين الإخوان، بين الأصهار، بين المسلمين، وهبَ عالم نفسه لله، ودبّر أمراً، فكان يذهب من أجل أن يعلّم البربر ويخرج تحت يد المراقبة دون أن يشعر به أحد ليعلم البربر العقيدة والعبادة والدين، ما تتصورون وما كنت أتصور أن العالم يضع نفسه هذا الموضع من أجل أن يُبلغ كلمة الله. إخواني : لقد كان يجعل نفسه وسط أكياس الفحم، ويدخل في إحدى هذه الأكياس مُخْتَفياً فيها، حتى إذا وصلوا نقطة المراقبة لم يرَ المراقبون إلا أكياس الفحم، وهو عالم من علماء القرويين، يذهب ويعود ليبلغ كلمة الله، هذا واحد، يكفيه هذا الموقف.

وهناك عالم، أيضا من علماء القرويين، دائما يحمل بُرْنُصَه على ظهره، فقيل له : تحمل برنصك في الصيف؟! قال : إني لا آمنُ أن يلقى عليّ القبض في كل لحظة فأجد ما أفترش وما أغطي به ظهري في السجون. وكان لباسه ممزّقاً، وكان حينما يعود، يُقدّم له أطفاله فلا يميّز بينهم وبين أطفال إخوانه، لا يعرفهم لأنه ما إن يعود إلى البيت حتى يرجع إلى السجن، فحينما يعود إلى البيت يقال له : هذا ولدك، فيقول : لا أعرفه لكثرة السجون والنفي.

وفي أحد السجون، في جنوب المغرب، دخل ضابط صغير فقام السجناء كلهم لتحيّته والعالم جالس، فقال الضابط : لِمَ لَمْ تقُم أنت؟ قال له : لو كنت قائما لقُمت للجنرَال بفاس. هذا موقف.

هناك إخواني علماء مغاربة إلى عهدنا هذا، مازال بعضهم على قيد الحياة تخرّج بعضهم بالعالميّة، ورغب عن العمل في مستوى العلماء، وذهب إلى جنوب المغرب وفتح كُتاباً قرآنيا من أجل أن يقوم بحركة التحرير ومن هؤلاء العلماء المغاربة : أبو علي الحسن اليوسي، وأبو القاسم الزياني، والمختار السوسي، وغيرهم.

وختاما أقول لإخواني :

إذا مرضت أعينكم فإنكم تعتنون بها أكثر من أي عضو آخر، أكثر من اليد والرجل وأي جارحة أخرى، وحتى علاجها على يد الأطباء يكون بحذر، لأن الخطأ في العين صعب، فأقول لإخواني إن العلماء هم عيوننا، حتى إذا وقعت آفة في العلماء، فلا نفقأ أعيننا، لا نسبُّ العلماء، لا نشهّر بعيوبهم وإنما نحاول -كما نعالج أعيننا باللطف والحذر والحكمة- نحاول أن نُحيي علماءنا، بالدعاءلهم في الصلوات وتشجيعهم ونصحهم أيضا، لأن العالم هو الذي يقبل النصيحة من أي شخص، وأخيرا أقول : العلماء كانوا أجلّ من الملوك جلالة وأعزّ سلطاناً وأفخم مظهراً، العلماء هم العمود الفقري، وهم عيون الأمة، فأرجو أن لا نفقأ أعيننا.

د. محمد آبياط

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>