التَّقْدِيسُ من الإنسان وغيره لله تعالى معناه : التَّنْزِيهُ لله تعالى عن كل ما لا يليق بالألوهية والربوبية من أوصاف النقص المعهودة في البشر وما دونه، لأن الله تعالى عَيْنُ الكمال المُطلق ومصدرُه ومَنْبَعُه ((وإذْ قَالَ رَبُّكَ للْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً. قَالُوا : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ويَسْفِكُ الدِّمَاءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ))(البقرة : 29)، أيْ نُنزِّهُك ونبرِّئُك من كُل ما يضيفُهُ إليك أهْلُ الشرك بك، حيث يكفرون بك، ويعصونك، فيجْنُون ثمرة ذلك خرابا للعمران، وفساداً للإنسان، وسفكا للدماء ظلما وعدوانا.
ومن هنا كان “القُدُّوسُ)) من أسماء الله الحسنى ((هُوَ اللَّهُ الذِي لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاًمُ المُومِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ))(الحشر : 23).
أما التقديس من الله تعالى لغيره فمعناه: التطهير المعنوِيُّ والتّبريك، أي جَعْلُ المُقَدَّسِ من عند الله تعالى طاهراً مطهَّراً مباركاً عليه وفيه. فالوحي الإلهي مُقَدَّس، يحمله الملَكُ المقدَّسُ، ويُنزِلهُ الله تعالى علَى النبيِّ المُقَدَّس لتحْيَا به القلوبُ والبلادُ المباركة ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُس مِن رَبِّك بالحقُ لِيُثَبِّتَ الذِينَ آمَنُؤا وهُدًى وبُشْرَى للْمُسْلِمِين))(النحل : 102).
وكلُّ من أضْفَى الله تعالى عليه صفة التقديس اسْتَوْجب منا الاحترامَ والتقدير والتأدُّبَ معه بآداب خاصة سواء كان كتابا، أو تشريعا، أو مكانا، أو زمانا، أو إنسانا. فانظرْ إلى قول الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام : ((فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى))(طه: 12) تَعْرِف أن اللَّهَ يَفْرض الاحترام لكل من قدَّسه الله تعالى، حيث أمَرَهُ بخلع النَّعْلَيْن احتراما للوادي المقدس.
وكذلك الشأن بالنسبة لكل أرض مباركة، أو بيوت مباركة، كالمساجد وبيوت الله تعالى، وكذلك الشأن بالنسبة للإنسان فلا ذكر للأنبياء إلا متبوعين بالتصلية والتسليم عليهم، ولا ذِكْر للصحابة إلا متبوعين بالترضية عنهم، ولا ذكر للمومنين السابقين إلا متبوعين بالترحم عليهم. وبالنسبة لغير الإنسان نجد أن للمسلمين آدابا خاصة مع كل ما فرض الله احترامه، فإذا ذُكِر القُرآن الكريم أُتبع بالدّعاء المأثور ((اللَّهُمَ اجْعَلْهُ رَبِيعَ صُدُورِنَا وجَلاَءَ غَمِّنَا وذَهَابَ حُزْنِنَا)) وإذا ذُكر الحج ذُكر بعده هذا الدعاء ((لا حَرَمَنا اللَّهُ مِنْهُ)) وإذا ذُكرتْ الجنة كان بعدها هذا الدعاء ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِهَا)).
نخلُص من هذا إلى أن المُقدَّس حقيقة هو من قدَّسَهُ الله تعالى، والمحترم حقيقة هو من افترض الله علينا احترامه وتقديره وطاعته واتباعه،… وهكذا :
ü فالقرآن العظيم بصفة كلية مقدس، لأنه وحيُ الله تعالى المقدس.
ü والنبي مقدس لأنه رسول الله تعالى المقدس.
ü وكل جُزئية تشريعية مقدسة كتاباً أو سنة صحيحة لأن مصدرها الله تعالى المقدس.
ü واللغة العربية مقدسة لأنها لغة الوحي الخاتم ووعاؤه ((وإِنَّهُ لتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))(الشعراء : 195).
ü والتعليم الإسلامي مقدّس لأن الله تعالى رَفَعَ قَدْر المعَلِّمين والمتعلمين والمخطِّطِين لتعليم الإسلام ((يَرْفَع اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتُو العِلْمَ دَرَجاتٍ))(المجادلة : 11)، لأن العلم الإسلامي هو الذي يضمن للبشرية جمعاء ما تطمح إليه من عدْل، وأمْنٍ، ومساواة، وتعايُش في سلام مُحَصَّن بالتقوى والثقة والعقل المتدبر المتفكر.
ü وعلماء الشريعة الربانيون محترمون مطاعون متبوعون لأنهم ورثةُ الأنبياء المصْطَفَوْن ((ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبَادِنَا))(فاطر : 22)، ((وإذَا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِن الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه ولوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهَ مِنْهُمْ))(النساء : 82).
فمن يستطيع استنباط العلم الشرعي من الوحي المقدس غَيْرُ العلماء الربانيين.
ü والأمراء والحكام المنفِّذون لشرع الله تعالى محترمون ومطاعون ومتبوعون ومسمُوعُو الكلمة ومقدَّرون لأنَّهُمْ حُمَاةُ الدين وحُرَّاس الشرع. ومن أحَقُّ بالطاعة الخالصة العابدة من هؤلاء الجنود المجندين لحماية البيضة، وحفظ الملة، وصيانة اسلام الأمة؟؟ ((يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ))(النساء : 58).
وبالمقابل فلا قداسة، ولا احترام، ولا تقدير لمن أهانه الله تعالى وحكم عليه بالسفه والطيش والغرور والانقياد وراء الأهواء البشرية الرخيصة السخيفة.
ü فلا قداسة ولا احترام لقيَمٍ جاهلية منبعُها الإنسان الناقص المُتَسَلِّط، فهل هناك من هو أحْرص على حقوق الإنسان من ربِّ الإنسان؟ وهل هناك من هو أغْيَرُ على عِرْض الإنسان، وعقله ونفسه، وماله من ربِّ الإنسان؟؟ وهل هناك من هو أكثر رقابة وهيمنة على الإنسان من رب الإنسان؟؟ وهل هناك من هو أرحم بالإنسان من ربِّ الإنسان؟؟ وهل هناك من هو أعلم بمصير الإنسان من رب الإنسان؟؟ وهل هناك من هو أكمل علما وتشريعا، وأنزه عدلا، وأصدق حُكما على الإنسان من رب الإنسان؟؟.
ولكن كبار قومنا صلى الله عليه وسلمومُفكِّرينارضي الله عنه استيقظوا استيقاظة مقلوبة، فهَرْوَلُوا جهة الإنسان الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وتركوا رَبّ الإنسان الآخِذِ بناصية الكبار والصغار، وأصبحوا يفتخرون بالالتزام بالمواثيق والقرارات البشرية ولو كان فيها انتهاك لحقوق الله تعالى وحقوق الإنسان المكرّم عند الله تعالى بلْ ولو كان فيها تعرية للإنسان وتجريده من كل القيم التي ارتضاها الله تعالى للإنسان.
وأكثر من ذلك أصبحوا يجاهرون الله تعالى بالعداوة، ويجاهرون مرجعية شرعه بالنَّبْزِ والاستهزاء ارتزاقا وتملقا وسعيا للحُظوة بين أيدي أكابر المجرمين في الأرض ((وكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ومَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بأنْفُسِهِْم ومَا يَشْعُرُونَ))(الأنعام : 124).
ü ولا احترام ولا شرعية لخطة تعليمية لا تتوفر على ثوابت الشعب المغربي المسلم، ولا على مقومات الأصالة والمعاصرة معا، فأية شرعية لخطة تعليمية وتربوية تتجاهل روح الإنسان وجوهر حياته وقيمته، وتضع نصب عينيها بُعْداً واحداً هو البُعد المادِّيُّ سواء على مستوى الشّغل، أو مستوى السوق الاقتصادي، أو مستوى التقنية والاستهلاك التكنولوجي والتصنيعي، أو مستوى الامتهان والاحتراف في معامل أرباب المال، ومصانع الاحتكار العالمي، كأننا شعب محكوم عليه سلفا بالبلادة والغباء والتبعية الذليلة العمياء لقوارين العصر وهامانات السياسة والاقتصاد والثقافة، بل كأننا شعب لقيط لا هويّة له، ولا لغة له، ولا مرجعية له، ولا تاريخ له، ولا حضارة له، ولا مقدسات له، ولا ثقافة له، أو كأننا قطيع يحتاج فقط للتَّسْمين بمزيد من التّبن والعلف، ليكون جاهزاً للذبح المعنوي والمادي عند الحاجة.
إن خطة موضوعة لتعليم أجيال العشرية الأولى من الألفية الثالثة لا يَرِد فيها ذِكّْرٌ لاسم ((الله)) تعالى -على تعدُّد صفحاتها بالعشرات- لهي خطة ملغومة منزوعة منها البركة والشرعية، وغير مُبَرَّأة من الكيد للشعب المسلم الذي ينص دستوره على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
إن خطة لا تعطي الأولوية لمقومات الشعب لهي خطة بعيدة عن الإصلاح، تستدعي المراجعة المتأنية، والاستقلال والنزاهة في التخطيط لصالح الأجيال وإلا كنا كمن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الحاقدين الذين نسوا الله تعالى فأنساهم أنفسهم ((ولا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَع هَوَاهُ وَكَانَ أمْرُهُ فُرُطاً))(الكهف : 28).