الموقع الجامعي لشعب الدراسات الاسلامية في مشروع


من الأساسيات التي يجب الانطلاق منها وعدم تجاهلها في تقويم هذا المشروع : أن العلم هو أساس العمل وقوامه، بل هو قائده وإمامه، فبقدر ما يكون للأمة من العلم، تكون أهلاً لبناء حياة قاصدة، وحضارة راشدة، والعكس بالعكس : ((قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))، وأوْلى أنواع العلم وأشرفُها : العلم الشرعي، لأنه يعرف بالله تعالى، ويعمق الصلة به، ويرشد السير في هذه الحياة، ويجعل السائر فيها على هدى من الله وعلى بينة من الأمر. ومن ثم كان للعلوم الشرعية والدراسات الاسلامية قيمتُها ومكانتها بين سائر العلوم والدراسات المادية والانسانية والحقوقية، فهي بالنسبة لغيرها كالقلب من الجسد، يصدق هذا ويؤكده : أن الحد الأدنى من هذه العلوم الشرعية يعتبر في ديننا واجبا عينيا وفرضاً على كل مسلم ومسلمة، لأنه الحد الذي يضمن مصداقية انتمائنا إلى الاسلام ونظامه وحضارته، وهذا مقرر في نصوص الشرع تقريرا واضحا لا مجال فيه للاحتمال، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)).

وقد قرر المشروع هذه القضية في فقرة “المرتكزات الثابتة” من القسم الأول المعنون بالمبادئ الأساسية، تقريراً عاما، يظهر ذلك في مثل قوله في أول الفقرة : “يهتدي نظام التربية والتكوين للملكة المغربية بمبادئ العقيدة الاسلامية وقيمها الرامية لتكوين المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح..”(ص : 9). ومصداقية هذا المرتكز تقتضي أن تكون الثقافة الشرعية حاضرة في هيكل التعليم بجميع مراحله وأقسامه وأسلاكه وفصوله وسنواته، وبجميع مسالكه وجذوعه، وبكل شعبه وتخصصاته ومواده.

ويظهر ذلك أيضا -في المشروع- في تنصيصه على حفظ ثوابت المغرب ومقدساته وحفظ تراثه الحضاري، والوفاء لأصالته، وتفاعله مع هويته.. (انظر ص : -9 10)، ومصداقية ذلك كله تقتضي أن يكون نظام التربية والتعليم في مغربنا نظاماً إسلامياً شرعيا ربانيا يستمد مادته ومضامينه من القرآن والسنة وتراثنا الاسلامي، ويستقي مناهجه وأدواته ووسائله من فكرنا الاسلامي وحضارتنا العريقة وتجربتنا الذاتية الأصيلة التي تعكس هويتنا وحقيقتنا وماهيتنا، لا من أصولٍ غير أصولنا، وفكر غير فكرنا، ولا من تجربة نبتت في أرض غير أرضنا، وديار غير ديارنا، وسقيت بماء آسنٍ غير مائنا، وصيغت بلسان غير لساننا…

إن مصداقية المصطلحات السابقة تقتضي أن يكون تعليمنا قائما في أطواره كلها على إعداد الصالحين المستقيمين، وتخريج الأقوياء الأمناء، وصياغة حماة هذا البلد وحفظه القيم والمبادئ العليا، الذين يحولون بينه وبين أطماع المفسدين المجرمين، لا إلى تكوين المائعين واعداد المذبذبين، وصنع المهزومين القابلين للارتماء في أحضان الاعداء من الغرب وأتباعه والاغتراف من فكره ومستنقعاته.

وإذاً، فالدراسات الاسلامية بمقتضى هذه المرتكزات الثابتة يجب أن تتبوأ مكانتها التي نص عليها المشروع، وذلك بحضورها العام في هيكل التعليم كله، وحضورها الخاص باعتبارها شعبة مستقلة قائمة بذاتها، لها تخصصاتها وفروعها، غير أننا عندما نتفحص المشروع ونتأمل في محتوياته، ونبحث عن موقع الثقافة الشرعية منه عموماً، والموقع الجامعي لشعب الدراسات الاسلامية على وجه الخصوص، نُصَادَفُ بتفسيرات وتطبيقات لا تتوافق تمام التوافق مع تلك المرتكزات، مما يضطرنا إلى إبداء ملاحظات وتصحيحات نجملها فيما يلي :

-1 الإجمال والغموض : ذلك أن المشروع ساكت عن مصير الشعب القائمة بما فيها الدراسات الاسلامية، وهل ستبقى هذه الشعب على ما هي عليه، أو يشملها تغيير، وإذا كانت ستتغير فما معايير هذا التغيير وما ضوابطه وموازينه؟ والسكوت في مثل هذا المقام سكوت عن البيان مع قيام الحاجة إليه!!

-2 سكوت المشروع عن شعب التعليم الجامعي عامة، وعن شعب الدراسات الإسلامية خاصة، إذا انضاف إليه ما ورد في المشروع من استقلالية الجامعة (انظر على سبيل المثال المادة : 86) يلزم منه إمكان الاستغناء عن بعض الشعب، وهذا إذا امتد إلى شعبة الدراسات الإسلامية كان منافيا ومناقضاً لما هو مقرر في المرتكزات الثابتة التي جاءت في صدر المشروع. وعليه، فيجب التنصيص على ضرورة اعتبار شعبة الدراسات الاسلامية شعبةً أساسية ومستمرة دائمة، لا يمكن الاستغناء عنها في التعليم الجامعي بحال.

-3 يشتمل المشروع على ما سماه بالدراسات الاسلامية، وقسمها إلى “عليا” و”نهائية” وجعلها امتداداً للتعليم الأصيل، وهذا مثبت في الضلع الأيسر الأعلى من التعليم العالي من الرسم البياني (انظر ص : 30). ولنا في هذا الذي أثبته المشروع ملاحظات :

أ- أن فيه التباساً وتشويشاً وغموضاً، فالقراءة الظاهرة لهذا الهيكل تدل على أن المراد به : الدراسات العليا والنهائية للتعليم الأصيل.

ولكن الوقوف على لفظة الدراسات الاسلامية ودلالتها الاصطلاحية المعهودة المتعارف عليها في التعليم الجامعي، يجعلها تدل على أن المراد بها : شعب الدراسات الاسلامية، وهذا التباس يجب أن يزول، ويوضح الأمر فيه توضيحا كافيا.

ب- هذا الضلع المذكور ينتهي بالدراسات الاسلامية النهائية دون الدكتوراه، فيجب أن تمتد الدراسة فيه إلى سلك الدكتوراه كغيره من أقسام التعليم الجامعي، لأن العلوم الشرعية والدراسات الإسلامية أجدر بأن تفتح لها أسلاك الدكتوراه، لسعتها وعمقها.

ج- هذا الضلع أيضا معزول عما سواه من أضلاع التعليم العالي كما هو واضح في الرسم البياني، ولا معنى لهذه العزلة ولا مسوغ لها، فيجب فتح الجسور بينه وبين غيره، وإزالة العزلة ورفع الحصار عنه، وذلك بتمكين طلبته والسماح لهم بالانخراط في ضلع التعليم الجامعي بأسلاكه، وكذا العكس.

-4 يلح المشروع في عدة مواضع على ضرورة ربط التعليم الجامعي بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي، وكان يجب أن يستحضر في ذلك أن من لوازم ما قرره في فقرة المرتكزات الثابتة : ضرورة حضور الثقافة الشرعية في ربط الجامعة بالمحيط، لأن هذا الربط لا يكون ربطاً بنّاءً راشدا سليما موصلاً إلى مقاصده السامية، ومحققاً لمصالحه العامة، إلا إذا كان معه القدر الكافي من الثقافة الشرعية، التي تحافظ على الأصالة والهوية، وتضمن الاستقامة والصلاح في عملية الربط من قبل ومن بعد.

-5 يلح المشروع أيضا على ربط التعليم بالشغل، وفي هذا الإطار يجب التنبيه على أن للعلوم الإسلامية مجالات تطبيقية كثيرة، وأنها مرتبطة بما سواها من العلوم ارتباطا وثيقا، وقاضية عليها، لأنها الأصل لما سواها، وهذان أمران يفرضان حضور الدراسات الاسلامية في المشروع على كل حال.

د. محمد الروگي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>