يعتبر بند التراجع عن مبدإ مجانية التعليم، خصوصا في الطورين الثانوي والعالي، أخطر إجراء يقترحه مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وهناك إصرار قوي لتطبيقه في أفق أقصاه خمس سنوات بعد الانطلاق العملي لمشروع الميثاق المرتقب في شتنبر 2000، بالنسبة للطور الثانوي، وثلاث سنوات فقط بالنسبة للطور العالي. بالرغم من تصريحات المسؤولين الهادفة إلى طمأنة الرأي العام الوطني، كتصريح وزير التربية الوطنية بأن مساهمة المواطنين في تمويل التعليم لن تتجاوز 5% من الميزانية الإجمالية للتعليم.
وقبل الحديث عن العواقب المحتملة عند تطبيق هذا الاجراء، لا بأس من التذكير بالنصوص الواردة في الميثاق التي لها علاقة بالموضوع، وهي النصوص التي وردت جميعها في الدعامة الأخيرة للميثاق وهي الدعامة رقم 19 التي تحمل عنوان : “تعبئة موارد التمويل وترشيد تدبيرها”. وهذه النصوص هي كالآتي :
((- لبلوغ (الأهداف والرهانات وجب) توخي جميع السبل الممكنة بحزم وواقعية مع حشد تضامن وطني شامل..
- تتطلب تعبئة الموارد الكافية والقارة الأخذ بمبدإ تنويع موارد تمويل التربية والتكوين..
ويقتضي تنويع موارد التمويل إسهام الفاعلين والشركاء في عملية التربية والتكوين من دولة وجماعات محلية ومقاولات وأسر ميسورة.
- في إطار الإصلاح المرتقب للنظام الجبائي، وتفعيلا للتضامن الوطني، ينظر في إمكانية خلق مساهمة وطنية في تمويل التعليم، ترصد مواردها لصندوق مخصص لدعم العمليات المرتبطة بتعميم التعليم وتحسين جودته، ويراعى في التكليف بهذه الموارد مستوى دخل الأسر ومبدأ التكافل الاجتماعي.
- سعيا لتغيير العلاقة وتجديدها بين المؤسسات التعليمية، في المستويين الثانوي والعالي، باعتبارها مرفقا عموميا، من جهة، وبين المستفيدين منها من جهة أخرى فإن إقرار إسهام الأسر يراد منه بالأساس جعلها شريكا فعليا، ممارسا لحقوقه وواجباته في تدبير وتقويم نظام التربية والتكوين وتحسين مردوديته.
وفي هذا المجال، يجدر تأكيد ثلاثة مبادئ أساسية :
+ إن الدولة تتحمل القسط الأوفر.. علاوة على… تعميم التعليم الإلزامي من سن 6 حتى متم سن …15
+ لا يحرم أحد من متابعة دراسته بعد التعليم الالزامي لأسباب مادية محضة، إذا ما استوفى الشروط المعرفية لذلك.
+ تفعيل التضامن الاجتماعي بإقرار رسوم التسجيل في التعليم العالي، وفي مرحلة لاحقة في التعليم الثانوي.
وبناء عليه، يراعى في تحديد رسوم التسجيل مدى يسر الأسر، بناء على ضريبة الدخل، مع تطبيق مبدإ الإعفاء الآلي للفئات ذات الدخل المحدود، والإنصاف بين الفئات الأخرى..
- يمكن تحديد مقادير رسوم تسجيل التلاميذ وفق المبادئ التالية :
أ- الإعفاء التام من أي أداء جديد للأسر ذات الدخل المحدود.
ب- الإعفاء التدريجي، ومراعاة عدم الإخلال جوهريا بتوازن الميزانية العائلية لدى الفئات ذات الدخل المتوسط، وباعتبار عدد أبناء أسرة واحدة متمدرسين بالتعليم الثانوي.
ج- في حالة تمدرس متزامن لعدة أبناء لأسرة واحدة بالتعليم الثانوي، تعفى هذه الأسرة من الأداء عن التلميذ الثاني والثالث بنسب متدرجة، حسب قدراتها المادية.
د- تعد رسوم التسجيل سنوية، ويمكن أداؤها موزعة على شهور السنة الدراسية.
- على مستوى التعليم العالي.. تفرض رسوم التسجيل بعد ثلاث سنوات من تطبيق مشروع الإصلاح مع إعطاء منح الاستحقاق للطلبة المتفوقين المحتاجين.
- يحدث نظام للقروض الدراسية، بشراكة بين الدولة والنظام البنكي، يمكن الطلبة وأولياءهم من أداء رسوم التسجيل بالقطاعين العام والخاص، بشروط وتسهيلات جد تشجيعية)).
فمن خلال هذه النصوص، يتبين أن هناك إصرار على إشراك المواطنين في تمويل قطاع التربية والتكوين، ولكن لم يرد أي تحديد أولي لقيمة الرسوم الدراسية، وهل أنها ستتزايد من مستوى دراسي لآخر ومن فئة اجتماعية لأخرى حسب الدخل؛ وهل ستكون هناك زيادات في المستقبل بعد كل مدة زمنية معينة.. كلما هنالك هو إشارة واضحة، تأكدت عدة مرات في هذه النصوص، تتمثل في الإعفاء الكلي للفئات ذات الدخل المحدود، ولكن لم تعط أية فكرة على هذا الدخل المحدود، هل هو الحد الأدنى للأجور SMIG أم الأجور المعفاة من الضريبة على الدخل GIR (وهي الأجور التي لا تتجاوز 2000 درهما شهريا) أم التكلفة الدنيا للمعيشة وهي تتباين طبعا من منطقة إلى أخرى وبحسب عدد أفراد الأسرة.. بحيث يمكن اعتبار 5000.00 درهم مثلا في مدينة صغرى أو متوسطة دخلا متوسطا، بينما في مدينة كبرى كالدار البيضاء لا يمكن تسمية أي دخل بأنه متوسط إذا كان أقل من حوالي 10000.00درهم نظرا لارتفاع مستوى المعيشة بهذه المدينة، خصوصا في قيمة الكراء.
كما ورد في هذه النصوص مسألة الإعفاء التدريجي لرسوم التلميذ الثاني والثالث بالنسبة للأسر متوسطة الدخل، حتى لا يتم “الإخلال بتوازن الميزانية العائلية”، ولكن ألا يمكن اعتبار حتى الأداء عن التلميذ الأول إخلالا بهذه الميزانية، التي تزداد إخلالا سنة بعد سنة بحكم الارتفاع المستمر للأسعار وبحكم التنوع المتواصل للاستهلاك لمواد وخدمات جديدة، في مقابل الجمود الواضح للأجور، وثبات إن لم ترتفع نسبة الضرائب وأنواعها.
عبارة أخرى تكررت في هذا الميثاق، وتكرارها يحمل رسالة معينة، وهي عبارة “التضامن الوطني” أو “التكافل الاجتماعي” لتمويل هذا القطاع، والرسالة التي يمكن أن نفهمها هي : عزم الدولة في المستقبل عن التراجع شبه الكلي عن تمويل هذا القطاع، بحيث ستعوضها “الأسر الميسورة” في هذا التمويل بمعنى أن الدولة ستتخلى تدريجيا عن تمويل هذا القطاع.
وفيما يخص التعليم العالي، فستعطي الدولة منحا للطلبة المتفوقين المحتاجين، ولكن هل سيستفيد كل الطلبة المتفوقين المحتاجين أم حسب عدد المنح المحدد سلفا في الميزانية السنوية كما هو حاصل الآن، بحيث يوزع هذا العدد على العمالات بحسب عدد السكان، مما يؤدي إلى عدم كفاية الحصة في العمالات التي توجد فيها الفئات الاجتماعية الفقيرة بكثرة، فيما تستفيد الأسر الميسورة الحال في العمالات التي تقل فيها هذه الفئات عن الحصة المخصصة للعمالة.
ملاحظة أخيرة، وهي تنصيص الميثاق على إمكانية منح قروض بنكية لغرض متابعة الدراسة، سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، “بشروط وتسهيلات جد تشجيعية”. وهذا ما سيفتح الباب إلى المزيد من اغراق الموطنين في المعاملات الربوية وما ينتج عنها من ضيق بسبب سداد الأقساط أو عدم القدرة على السداد وبالتالي الحجز على الممتلكات، وبالتأكيد ستضطر العديد من الأسر إلى هذا النوع من الاقتراض (لأنه اقتراض استثماري أكثر منه استهلاكي) حتى تتمكن من تعليم أبنائها.
بعد هذه الملاحظات السريعة، يمكننا أن نتصور بعض العواقب التي يمكن أن يتسبب فيها تطبيق عدم مجانية التعليم في الطورين الثانوي والعالي، وهي عواقب يمكن تصنيفها إلى صنفين : عواقب اقتصادية وعواقب حضارية.
-1 العواقب الاقتصادية :
عدم استفادة الغالبية العظمى من المواطنين من متابعة الدراسة في الطورين الثانوي والعالي، لأن أغلبية التلاميذ من أبناء الفقراء، ولأن أغلبيتهم لا يمكن أن يكونوا متفوقين حتى يستفيدوا من منح الدولة. ونتيجة ذلك كله هو تراجع المتوسط العام للمستوى الدراسي/الثقافي للسكان، وهذا أمر سيزيد البلد تخلفا، نظرا للارتباط الكبير والوثيق بين هذا المستوى وازدهار التنمية الاقتصادية. فهذه كوريا الجنوبية لم تصبح قوة اقتصادية وصناعية، إلا بعدما تراجعت نسبة الأمية فيها إلى أقل من 2% ووصلت نسبة السكان الذين يتوفرون على مستوى الباكلوريا إلى أكثر من 50%.
كما أن متابعة التعليم في أطواره العليا مكن فئات واسعة من المجتمع في الماضي إلى الرفع من مستواها السوسيو -اقتصادي، إذ كان التعليم وسيلة من وسائل الرقي الاجتماعي، ولعلها كانت أهم وسيلة بالنسبة للفئات الفقيرة والمتوسطة، إلا أن عدم تمكن النسبة العظمى من هذه الفئات من متابعة التعليم ما بعد الطور الإلزامي في المستقبل سيؤدي إلى توسع قاعدة الهرم الاجتماعي وتقلص وسطه، مما سيكون من نتائجه تراجع النمو الاقتصادي، لأنه كما هو معلوم إذا تراجع الاستهلاك تراجع الانتاج وبالتالي تراجع الاستثمار، ولأن ارتفاع الاستهلاك وتنوعه مرتبط بارتفاع المستوى الثقافي للسكان ومرتبط أساسا بتوسع الفئات الوسطى، فتوسع الأسواق وتقلصها رهين بما تشكله الفئات الوسطى داخل البلد وليس بالعدد الاجمالي لسكان هذا البلد. فمثلا الهند تعد من أكبر الأسواق لا لأن تعدادها يصل إلى قرابة مليار نسمة ولكن لأن الفئات الوسطى فيها تصل إلى 300 مليون نسمة.
-2 العواقب الحضارية :
فعند إلغاء المجانية سيترك الناس الشعب والعلوم غير المادية كاللغات والآداب والعلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، وحتى العلوم المادية سيُختار منها فقط العلوم المادية العملية كالطب وطب الأسنان والصيدلة والهندسة بكل فروعها… بمعنى آخر، إذا كان لابد من الأداء، فلتستثمر الأسرة في الدراسة التي يمكن أن يتخرج منها ابنها إطارا عمليا كبيرا، كي يعمل بأجر كبير في المستقبل أو أن يمتهن مهنة حرة عليا أو ما يسمى في القاموس الاقتصادي بالمهن الليبرالية.
وهذا ما سيؤدي إلى إغلاق المؤسسات والكليات التي تدرس شعبا غير عملية ومن غير النوع المذكور أعلاه، وبالتالي سيتعطل تخريج المثقفين والمبدعين وعلماء اللغة العربية وعلماء الشريعة الإسلامية والمؤرخين والجغرافيين وعلماء النفس والاجتماع.. وهذا ما سيهدد بالتأكيد في المستقبل كلا من ديننا وثقافتنا ولغتنا، وإجمالا سيهدد هويتنا وشخصيتنا وأصالتنا، وسنصبح تابعين بدون أية مقاومة للحضارات الأخرى.
وهكذا سيتحول تعليمنا إلى تكوين مهني بكل المستويات : المستوى الأول بعد الطور الإلزامي؛ المستوى الثاني هو الطور الثانوي، والمستوى الثالث هو الطور العالي، إذ ستتحول الجامعات إلى مراكز عليا للتكوين المهني.
هذه بعض العواقب التي قد تنجم عند تطبيق إجراء واحد فقط من ميثاق التربية والتعليم المقترح، فماذا إذا طُبِّق بالكامل؟!
ذ. أحمد الفيلالي