-1 الامام الشهيد حسن البنا
كفى برهاناً على خلود الاسلام وعلى أنه دين الله المختار، الذي جاء ليعيش إلى آخر الزمن، وعلى خلود هذه الأمة، وعلى أنها هي الأمة الأخيرة، وعلى أنها منجبة منتجة، مورقة مزهرة، وعلى أنها كنانة الله التي لا تنفد سهامها، ولا تخطئ مرامها، كفى برهاناً على كل ذلك وجود هؤلاء المصلحين والمجاهدين، والعباقرة والنوابغ، والموهوبين والمؤيدين والمربين، وقادة الاصلاح الموفقين، الذين ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة، وفي أجواء غير موافقة، بل في أزمنة مظلمة حالكة، وفي بيئات قاتلة فاتكة، وفي شعب أصيب بشلل الفكر، وخواء الروح وخمود العاطفة وضعف الارادة وخور العزيمة، وسقوط الهمة ورخاوة الجسم، ورقة العيش وفساد الأخلاق، والاخلاد إلى الراحة، والخضوع للقوة، واليأس من الاصلاح، وأصبح الجيل المعاصر كله كأنه طبعة واحدة من كتاب واحد خرجتمن مطبعة متقنة لا تختلف نسخها وصحائفها، فحسبك أن تقرأ كتاباً وتقيس عليه الباقي، فلا تنوع ولا اختلاف، ولا طموح ولا استشراف، ولا قلق ولا اضطراب، ولا تفرد ولا شذوذ، ولا جدة ولا طرافة، ولا شيء غير المعتاد، ولا شيء فوق المستوى.
وأصبحت الحياة قطاراً موحداً تجره قاطرة واحدة، هي قاطرة المادة والمعدة، أو قاطرة الغرض والمصلحة، أو قاطرة اللذة والمنفعة، أو قاطرة القوة والغلبة، ويدل كل شيء على أن هذه الحياة قصة واحدة، أو مسرحية قد أحكم وضعها وإخراجها، ويعاد تمثيلها على مسرح الانسانية، أو على مسرح التاريخ الاسلامي، ويلعب كل بطل من أبطال هذه الرواية دوره الخاص الذي أسند إليه بكل مهارة ولباقة، ثم تنتهي هذه القصة في تصفيق المعجبين ودموع المتألمين.
وبينما يواصل هذا الركب سيره، وهذا القطار سفره، في غايات محدودة ومنازل معروفة، وأصوات مألوفة ونغمات مكررة، إذا بشخصية تقفز من وراء الأستار أو من ركام الأنقاض والآثار، وتفاجئ هذا الركب الهادئ الوادع الذي لا يعرف غير الوصول إلى غايته المرسومة المحدودة، ولا يهتم إلا بقوت اليوم وزاد الطريق وأمن السبيل وراحة الأبدان، تفاجئه بالدعوة إلى الإصلاح، والحاجة إلى استئناف النظر، والتفكير في الأوضاع العامة، ومصير الانسانية، ومسؤولية الأمة التي أخرجت للناس، والثورة على الأوضاع الفاسدة والأخلاق الرذيلة والعقائد الضالة والعادات الجاهلية، وعبادة البطون والشهوات، وعبودية القوة والسلطان، ويدعو إلى حياة كريمة فاضلة، وإلى مدنية سليمة صالحة، وإلى مجتمع رشيد عادل، وإلى إيمان عميق جديد، وإلى إسلام قوي حاكم، ويرفع بكل ذلك صوتاً مدوياً عالياً يضطرب به الركب، وتهتز به مشاعره وعواطفه وقيمه ومفاهيمه، ولا يستطيع أن يتغافل عنه أو يتجاهله أو يستخف به ويستمر في سيره، غير مقبل عليه أو ملتفت إليه، بل يخضع له عدد كبير منأعضائه فينشقون عنه ويلتحقون بهذا الداعية، فيجعل منهم ركباً جديداً يثق بنصر الله، ويسير على بركة الله.
إن لهؤلاء الثائرين والدعاة المصلحين قائمة مشرقة مشرفة، يتجمل بها تاريخ الاصلاح والدعوة، ولا يخلو منهم زمان ومكان، وقد كان الشيخ حسن البنا، من هذه الشخصيات التي هيأتها القدرة الالهية، وصنعتها التربية الربانية، وأبرزتها في أوانها ومكانها، وإن كل من يقرأ كتابه : “مذكرات الدعوة والداعية”، وهو سليم الصدر، مجرد الفكرة، بعيد عن العصبية والمكابرة يقتنع بأنه رجل موهوب مهيأ ليس من سوانح الرجال، ولا صنيعة بيئة أو مدرسة، ولا صنيعة تاريخ أو تقليد، ولا صنيعة اجتهاد أو محاولة وتكلف، ولا صنيعة تجربة وممارسة، وإنما هو من صنائع التوفيق والحكمة الالهية والعناية بهذا الدين وبهذه الأمة، وبالغرس الكريم الذي يهيأ لأمر عظيم ولعمل عظيم في زمن تشتد إليه حاجته، وفي بيئة تعظم فيها قيمته.
إن الذي عرف الشرق العربي الاسلامي في فجر القرن العشرين، وعرف مصر بصفة خاصة، وعرف ما أصيب به هذا الجزء الحساس من جسم العالم الإسلامي من ضعف في العقيدة والعاطفة، والأخلاق والاجتماع، والارادة والعزم، والقلب والجسم، وعرف الرواسب التي تركها حكم المماليك وحكم الأتراك وحكم الأسرة الخديوية وما جر عليه الحكم الأجنبي الانكليزي، وما جلبته المدنية الافرنجية والمادية والتعليم العصري اللاديني، والسياسة الحزبية والنفعية، وزاد هذا الطين بلة ضعف العلماء وخضوعهم للمادة والسلطة، وتنازل أكثرهم عن منصب الامامة والتوجيه، وانسحابهم عن ميدان الدعوة والارشاد، والكفاح والجهاد، واستسلامهم للأمر الواقع، وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زد إلى ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم، والخلاعة والمجون، والالحاد والزندقة، وتزعم الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، والقوية التأثير للدعوات المفسدة، والحركات الهدامة، والاستخفاف بالدين وقيمه والأخلاق وأسسها، كذلك ما آل إليه الأمر ووصلت إليه الأقطار العربية بصفة عامة، والقطر المصري بصفة خاصة، من التبذل والاسفاف، والضعف والانحطاط والثورة والفوضى، والانهيار الخلقي والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي، ورأى كل ذلك مجسما مصوراً في أعداد “الأهرام” و”المقطع” و”الهلال” و”المصور”، وفي كتب كان يصدرها أدباء مصر وكتابها المفضلون المحببون عند الشباب، ورأى ذلك مجسما مصوراً في أعياد مصر ومهرجاناتها، وحفلاتها وسهراتها، واستمع إلى الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم، وزار الاسكندرية وشواطئها ومصائفها، ورافق الكشافة والرياضة والمباراة، ودخل دور السينما، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر، ويتهافت عليها الشباب بنهم وجشع، وعاش متصلا بالحياة والشعب وتتبع الحوادث ولم يعش في برج عاجي وفي عالم الأحلام والأوهام، ومن هنا تبدأ فقرة تقول : إن من رأى ذلك كله عرف رزية الاسلام والمسلمين، ونكبة الدعوة الاسلامية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيما للعالم العربي كله، وزعيماً للعالم الاسلامي عن طريقه، والذي بقي قروناً كنانة الاسلام ومصدر العلم والعرفان، وأسعف العالم العربي وأنجده بل أنقذه في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الاسلامي، ولا يزال يحتضن الأزهر الشريف أكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه.
إن كل من عرف ذلك عن كثب لا عن كتب وعاش متصلا به، عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والاسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين والناقدين وهي العقل الهائل النير، والفهم المشرق الواسع، والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك الفياض، والروح المشبوبة النضرة، واللسان الذرب البليغ، والزهد والقناعة -دون عنت- في الحياة الفردية، والحرص وبعد الهمة -دونما كلل- في سبيل نشر الدعوة والمبدأ، والنفس الولوعة الطموح، والهمة السامقة الواثبة، والنظر النافذ البعيد، والاباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس.. تواضعاً يكاد يجمع على الشهادة عارفون، شأنه -كما حدثنا كثير منهم- مثل رفيف الضياء، لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة.
وقد تعاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيراً منها منذ قرون، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد -في دنيا العرب خاصة- حركة أوسع نطاقا وأعظم نشاطاً وأكبر نفوذاً وأعظم تغلغلا في أحشاء المجتمع وأكثر استحواذاً على النفوس منها.
وقد تجلت عبقرية الداعي -مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها- في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل الندر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين : أولاهما : شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجري الله على أيديهم الخير الكثير، والناحية الثانية : تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحه المدهش في التربية والانتاج، فقد كان منشئ جيل ومربي شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين، وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطابتهم، تأثيراً بقي على مر السنين والأحداث، ولا يزال شعاراً وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان.
لقد فاتني أن أسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر، فقد كان العام الأول الذي كتب الله لي فيهالحج، والزيارة، وخرجت من الهند لأول مرة، هو عام 1366هـ (1947م) وهو العام الذي تغيب فيه الشهيد عن الحجاز ولم يغادر مصر، وقد كان يحضر الموسم في غالب الأعوام، ويحرص على نشر دعوته والحديث إلى وفود بيت الله الحرام، وعلى السعي المجهد الحثيث في توثيق الصلات والعهود مع الوافدين من أنحاء العالم الاسلامي كله.
بيد أني قابلت بعض تلاميذته ودعاته، فلمست فيهم اثار القائد العظيم والمربي الجليل، فلما قدر لي أن أزور مصر سنة 1370هـ (1951م) كانت رحمة الله قد استأثرت به ولم يجاوز عمره الثانية والأربعين، إثر حادث استشهاده الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين وحرم العالم الاسلامي هذه الشخصية التاريخية الفريدة، ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لي، ولكني اتصلت بتلاميذه اتصالا وثيقاً، وعشت فيهم كعضو من أعضاء أسرة واحدة، وزرت والده العظيم -رحمه الله- واستقيت منه معلومات وأخبار سجلتها في مذكراتي وقابلت زملاءه وأبناءه، واجتمع لي من كل هذه الآثار والأخبار ملامح الصورة العظيمة لصاحب هذه الدعوة ومؤسس هذه المدرسة، وأنا واثق بأنها صورة صادقة مطابقة.
وفي تلك الرحلة حصلت على كتابه “مذكرات الدعوة والداعية” فألفيته كتابا أساساً، ومفتاحاً رئيسياً، لفهم دعوته وشخصيته، وفيه يجد القارئ منابع قوته ومصادر عظمته، وأسباب نجاحه واستحواذه على النفوس، وهي : سلامة الفطرة، وصفاء النفس، وإشراق الروح، والغيرة على الدين، والتحرق للاسلام، والتوجع من استشراء الفساد، والاتصال الوثيق بالله تعالى، والحرص على العبادة وشحن “بطارية القلب” بالذكر والدعاء والاستغفار، والخلوة في الأسحار، والاتصال المباشر بالشعب وعامة الناس في مواضع اجتماعهم ومراكز شغلهم وهوايتهم، والتدرج ومراعاة الحكمة في الدعوة والتربية، والنشاط الدائم والعمل الدائب.
وهذه الخلال كلها هي أركان دعوة إسلامية ربانية، وحركة دينية تهدف إلى أن تحدث في المجتمع ثورة إصلاحية بناءة، وتغير مجرى الحوادث والتاريخ، لذلك كان أصحاب دعوة الاسلام وحملة أمانتها، بل والعاملون في مختلف حقول الاصلاح، بحاجة دائمة إلى هذا الكتاب وإعادة التأمل العميق فيه الفينة بعد الفينة.
أما بعد : فقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الدعوة التي أعادت إلى الجيل الجديد في العالم العربي الثقة بصلاحية الاسلام وخلود رسالته، وأنشأت في نفوسه وقلوبه إيماناً جديداً، وقاومت “مركب النقص” في نفوسهم، والهزيمة الداخلية التي لا هزيمة أشنع منها وأكبر خطراً، والميوعة وضعف النفوس والانسياق تحت ربقة الشهوات والطغيان، وخلقت كما يقول شاعر الاسلام الدكتور محمد إقبال : “في جسم الحمام الرخو الرقيق، قلب الصقور والأسود” حتى استطاع هذا الجيل أن يصنع عجائب في الشجاعة والبسالة والاستقامة والثبات.
لقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الحركة وطمس معالمها، وتعذيب جنودها، وتشريد رجالها، جريمة لا يغتفرها التاريخ الاسلامي، ومأساة لا ينساها العالم الاسلامي، وإساءة إلى العالم العربي لا تعدلها إساءة، ولا تكفر عنها أي خدمة للبلاد، وأي اعتبار من الاعتبارات السياسية. إنها جريمة لا يوجد لها نظير إلا في تاريخ التتار الوحشي وفي تاريخ الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في العالم المسيحي القديم ولا حول ولا قوة إلا بالله.