أولا : موقع الإعلام في مخطط الأمن الثقافي للأمة الاسلامية
لا أختلف مع الكثيرين إن قلت بأن من وسائل تعزيز خط الدفاع في استراتيجية الأمن الثقافي لأي أمة من الأمم، تحديد الهدف المراد بلوغه، ونحن نخطط لسياسة ثقافية معينة، للعلاقة الجدلية الثلاثية الأبعاد الموجودة بين (السياسة) و(الاستراتيجيا) و(الهدف)، فلا حديث عن أمن ثقافي حقيقي بدون توفرنا على سياسة ثقافية تعتمد استراتيجية محددة لبلوغ الأهداف المسطرة. ولعل من أهم المداخل الرئيسية التي يمكن اعتمادها في رسم هذه السياسة، التي ينبغي أن تتصف بعنصري الجرأة والمسؤولية، المدخل الاعلامي لما له من تأثير كبير في صناعة الرأي العام ونشر الثقافة وتشكيل الذهنية وتغيير السلوك، خاصة إذا وضعنا هذه الأهمية بداخل المسار التام للثورة المعلوماتية المهمة والخطيرة في نفس الوقت، والتي للأسف الشديد تسيطر عليها المؤسسات الغربية.
إن الغاية من تحديد هذا الموقع الذي يحتله الاعلام بداخل منظومة الأمن الثقافي، هي ربطه بالأهداف الثقافية العليا للأمة الاسلامية، بعيداً عن كل المعوقات الذاتية التي لا تدعم إلا خط الإعلام الثقافي الترفيهي السطحي، الذي يقتل في الانسان آدميته وكرامته واحساسه بالمسؤولية، ويهدم كل البنى المدعّمة لثقافة التنمية والتقدم والابداع، خاصة إذا استحضرنا في هذه النقطة أن الانسان هو الهدف في كل المجالات، وأنه بدون احترامه على مستوى الثقافة الاعلامية، نكون قد ضربنا في الصميم احدى ركائز التنمية التي ندعو إليها، الأمر الذي يقتضي، في إطار تدعيم خط الأمن الثقافي للأمة الاسلامية، العمل على تحديد الفهم الثقافي للاعلام، وتطوير الوسائل الاعلامية لخدمة هذه الثقافة، حتى نكون في مستوى حاجيات الأمة الباحثة عن الاشباع الثقافي كحق من حقوقها من جهة، وفي مستوى تحديات مسار الاعلام الثقافي العالمي ذي الصبغة الاختراقية، بحيث يقتضي الأمر في هذا المجال أن يلعب إعلامنا دوره كأداة لتحقيق توازننا الثقافي في زمن المتغيرات الدولية والثورات التقنية والمعرفية المتواصلة، بشكل يصعب معه تصور اندماجنا في المسار الحضاري العالمي، أو حتى على الأقل، حماية أنفسنا ثقافيا، بدون تحقيق هذا التوازن النفسي والثقافي-الحضاري، الذي يخلصنا من آفة الدهشة الحضارية من التقدم المادي الغربي المعاصر.
إننا بحاجة إذن إلى سياسة إعلامية خادمة لاستراتيجية أمننا الثقافي، خاصة ونحن نعلم علم اليقين، أن الاعلام الاسلامي الملتزم يواجه مجموعة من الصعوبات والتحديات، المادية والمعنوية، داخليا وخارجيا، تكفي لاجهاضه وتقويض دعائمه، ولولا اخلاص بعض الجهات، وعملها الدؤوب على جعل الاعلام احدى قنوات الدعوة والترشيد، وتقويم الخلل الذي أصاب أفهام الناس وتدينهم، مع ما ينقص من تجربة وخبرة ميدانية تكون في مستوى حجم التحديات والمهام المطلوبة، لاستطاع اعلام العلمنة والتغريب والتطبيع افساد ما تبقى من الفطرة السليمة للمسلمين لما يمكنه من أدوات ووسائل تمكنه من اختراق الحصون وغسل الأدمغة وإعادة تشكيل الرأي وبناء المفاهيم الجديدة وتطويق الخناق على الذات. ولعل من أبرز المشكلات التي لازلنا نعاني منها في اعلامنا الاسلامي المعاصر، إلى جانب المشاكل المادية والتقنية، مشكل غياب الدعم من قبل أغنياء الأمة الذين يفضل أكثرهم دعم بناء المساجد وتأثيثها بآخر ما استجد في عالم الصناعة والزخرفة، على أن يمدوا يد العون للذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ووقتهم وفكرهم وحرياتهم في سبيل تشكيل خطاب إعلامي يكون في حجم التحديات، نستطيع من خلاله مخاطبة ما تبقى من فطرة الناس لعلهم يرشدون. مع العلم أن المجال الذي يجاهدون بداخله محدود بحدود الطاقات والامكانات والهوامش التي تسمح بها المؤسسات الوصية، وهو ما يجعلنا نقول على أن الكلمة المسؤولة التي نوجهها للناس تبقى في حدود ضيقة، تقتصر في غالبيتها على الاعلام المكتوب، في حين يظل الاعلام السمعي-البصري الاسلامي قليل التأثير، بقلة قنواته المعدودة على رؤوس الأصابع، وكثرة القنوات العلمانية والتغريبية. وعليه، فإن أمننا الثقافي المطلوب يقتضي أن يتمكن أبناء الأمة العاملين في حقل الاعلام من الاستحواذ على تكنولوجيا الاعلام السمعي-البصري بالأساس، لأنه الأكثر تأثيراً في النفوس، والأسرع تشكيلا للعقول والذهنيات.
ثانيا : الاعلام والثقافة وضرورة التكامل
إن أساس التنمية المستديمة هو إحداث قاعدة التكامل بين مختلف المجالات المشكلة لبنيات المجتمع، بل والعمل على ترسيخ هذه القاعدة بما يسمح بالارتقاء بهذا المجتمع إلى مسار التطور والتقدم ومواكبة مجريات الأحداث الحضارية العالمية، بل والاسهام في صنعها. ولعل التكامل بين قناتي الاعلام والثقافة في المجتمع الاسلامي يعتبر ضرورة ملحة تفرضها موجة البحث عن المداخل الحقيقية للاستقلال والتنمية وحماية الهوية في زمن تتحكم فيه تكنولوجيا الاتصال الغربية وما يحيط بذك من دعم مالي ومعنوي لا محدود، والمكرس أصلاً لترويج نوع خاص من الثقافة للدول الرافضة لمنطق الانصهار، الشيء الذي يعني، بصيغة أخرى، أن المواجهة الحقيقية للسياسة الاعلامية الغربية ذات الصبغة الاستعمارية، تتطلب توفر الأمة على استراتيجية تجعل من الثقافة الاعلامية أداة للدفاع وتحقيق الأمن الثقافي، وهي حظوة تتطلب بدورها التكامل بين الاعلام والثقافة من جهة، وامتلاك وسائل الممانعة الثقافية، في عصر قوة الآلة الاعلامية الغربية ومحدودية الآلة المحلية، بل وضعفها، في ظل عدم التنسيق بين الدول الاسلامية في المجالات الثقافية والاعلامية، حتى أن السمة الغالبة على هذا اللون من الاعلام هي التكرار واعتماد البرامج السطحية، والرياضية بالأساس، لملء الفراغ الحاصل في ساعات البث الطويلة، ويزداد الطين بلة إذا ما قرأنا ضعف إعلامنا الثقافي من خلال اعتماده، بنسب كبيرة، على الانتاج الغربي.
إن أية خطة تسعى إلى تحقيق الأمن الثقافي لا يمكنها أن تتقدم خطوة إلى الأمام إلا باعتماد سياسة التكامل سواء بين الاعلام والثقافة، أو بين الدول المنتمية إلى المنظومة الحضارية الاسلامية، ذلك أن المسار يقتضي الخطة الشاملة والمشتركة على حد سواء، لنكون، على الأقل، في مستوى الدفاع عن ثقافتنا كخطوة أولى على درب المشاركة الفعالة في التنمية الثقافية العالمية الصحيحة، خاصة ونحن أمة مكلفة شرعاً بأداء واجب الدعوة إلى الله، فكيف نقوم بدعوة الناس، عالميا ونحن لم نُصَفِّ حسابنا مع مشاكل الدعوة محليا؟ وعليه، يكون من الضروري الإلحاح على التكامل بين السياسة الاعلامية والسياسة الثقافية، خاصة والرسالة الاعلامية جزء من الرسالة الثقافية، وتأثير رسالة الاعلام في الذهنيات هو في عمقه تأثير الرسالة الثقافية، وبذلك يكون من المطلوب العمل على تطوير ثقافتنا من جهة ووسائل اعلامنا من جهة أخرى، بما يكفي لصد هجمات الثقافة الغربية، وسد ثغرات الثقافة المحلية، فالشعوب التي لا تتوفر على هوية ثقافية قوية لا يمكنها أن تُقدم شيئا يُذكر لا لنفسها ولا لغيرها، وهي بذلك شعوب مفلسة حضاريا، ولذلك سعت المؤسسات الاعلامية الغربية الى تدمير هذه الهوية واضعاف عامل الخصوصية فينا، مع تطويقها لوسائلنا الاعلامية من كل جانب، والتحكم في دواليبها، إلى جانب تطويقها سياسيا في إطار النظام القطري، واقتصاديا في إطار النظام الاستهلاكي.
خاتمة :
وعلى الجملة يمكن القول على أن الأمة الاسلامية تجتاز في المرحلة الراهنة منعطفا خطيراً على منواله سيتحدد مستقبلها في الألفية الثالثة المقبلة، وتزداد خطورة هذا المنعطف مع وضع واقعها في خضم الثورات المعرفية والتقنية التي لا تكرس في حقيقة الأمر إلا من حواجز التواصل مع الغرب، ومن معوقات اسهامنا في بناء ثقافة انسانية آدمية مُكَرِّمة للانسان ومرشدة إياه إلى المداخل الحقيقية لأداء أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض وفق ما شرعه الله عز وجل ابتداء. ولن تتمكن الأمة الاسلامية من أداء هذه الرسالة الجليلة إلا بتحقيقها لشرط الأمن الثقافي، هذا الأخير لا يمكننا الحديث عنه في غياب سياسة شاملة ذات منهجية استراتيجية ترسم الأهداف المستقبلية وتسهر على بلوغها، باعتماد مجموعة من الأدوات والوسائل، يأتي الاعلام في مقدمتها لما لرسالته من تأثير على الذهنيات وتشكيل شخصية المتلقي. من هنا دعوتنا، مع الداعين، إلى ضرورة التكامل بين الوسيلة الاعلامية والرسالة الثقافية، مما سيجنب خطابنا الاعلامي والثقافي عدة آفات، كالعشوائية والتبعية والدونية وفقدان المصداقية والانفصال عن الجماهير.
إن المسار الذي تقطعه الحضارة الانسانية، بما فيها العلاقات بين الشعوب والأمم من جهة، والثورة المعلوماتية السريعة التي حققت فعل الاختزال الزمني والمكاني، كفيلان بجعلنا نتخوف من عالم الألفية الثالثة، خاصة إذا بقيت أحوالنا على ما عليه، لأنه عالم ملغوم ومحكوم بسياسة القهر السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي، ولن تصمد فيه إلا الشعوب التي تمكنت فعلا من بناء قواعد أمنها الثقافي، وامتلكت الوسائل الكافية للتحصين الذاتي والممانعة الثقافية لعل في مقدمتها : الوسيلة الإعلامية. لكن وبالرغم من هذا الخوف الذي يدفع بالقلوب إلى بلوغ الحناجر، يحفنا الأمل في الصمود والمقاومة، لأننا أمة رسالة، والأمة التي تحمل هذا اللون من الرسائل، تكون دائما مبتلية، ليعلم الله الذين جاهدوا في سبيله، وينصر من ينصره مصداقا لقوله جل جلاله: ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم))(محمد : 8).
ذ. عبد العزيز انميرات