حيرة العالم الإسلامي :
إن العالم الإسلامي حائر اليوم بين دين لا يسهل عليه العمل به والقيام بمطالبه، لعادات نشأ عليها وحكومات أفسدته وتعليم أذابه وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته، وبين جاهلية لا ينشرح لها صدره لايمان لا يزال له بقية فيه، وقومية عجنت مع الاسلام وحضارة تخمرت مع الدين.
إن العالم الاسلامي حائر بين شعوب مسلمة بسيطة في عقليتها ودينها، وحكومات لم تنشرح صدور رجالها لهذا الدين ولم تطاوعهم نفوسهم على العمل به، ولكنهم يصرون على أن يحكموا هذه الشعوب التي تؤمن بهذا الدين، ولا يرون حياتهم وشرفهم إلا في البقاء في الحكومة، ولا يرون لهم محلا في الحياة إلا الزعامة والحكومة، ولا موضعاً في العالم إلا المجتمع الاسلامي الذي ولدوا ونشأوا فيه، فالشعوب في تعب منهم وهم منها في بلاء وعناء.
إن العالم الاسلامي حائر بين فطرته التي تنزعه إلى الدين وتاريخه الذي يدفعه إلى الإيمان والجهاد، والكتاب الذي يقبل به على الآخرة ويبعث في نفسه الثورة على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة، وبين التربية العصرية التي تزين له المادية وتطبعه على الجبن والضعف، والزعامة التي تفرض عليه الاتكال على الغير والاعتماد على العدو والفرار من الزحف.
إن العالم الاسلامي حائر بين شباب ثائر، ودم فائر، وذهن متوقد، وأزهار تريد أن تتفتح، وبين قيادة شائخة شائبة قد أفلست في العقلية والحياة وحرمت الابتكار والابداع والشجاعة والمغامرة.
إن العالم الاسلامي حائر بين مواد خام من أقوى المواد وأفضلها في الإيمان والقوة والشجاعة، وبين موجهين وصناع لا يعرفون قيمة هذه المواد ولا يعرفون أين يضعونها ولا ماذا يصنعون منها.
هذا هو العالم الإسلامي الذي يواجه العالم اليوم فلا يجد غناءه ولا يجد فيه غوثاً ومعقلا عن لصوص العالم المنظمين، وذئاب الانسانية التي تحكمت وعاثت فيها.
ضعف العالم العربي :
ثم هذا العالم العربي… إنه اليوم مع كل أسف أضعف أعضاء جسم العالم الاسلامي، وقد كان واجباً أن يكون أقواها وأصحها وأن يكون في العالم الاسلامي بمنزلة الرأس أو القلب من البدن، وقد تضافرت عليه عوامل الافساد والضعف فأحدثت فيه عللا كثيرة، وقد ولد فيه ضعف الحكم التركي وغفلته عن تعليم الشعوب وتربيتها، وإنفاق الأموال في غير موضع، وعسف في غير هوادة، أورث كل هذا البطالة وسقوط الهمة والجهل المطبق في كثير من البلاد العربية، وجاء الاستعمار الأوروبي فأورث التفسخ في الأخلاق والانحلال في الدين والاندفاع المتهور إلى المادية والتهالك على الشهوات، وقامت الحكومات الشخصية فأورثت التملق وكثرة المجاملات والنفاق والخنوع للقوة والمادة، ثم جنى عليه قربه من أوربا، فكان هدفاً لتياراتها المدنية ومنتجاتها الصناعية وأفكارها المتطرفة، وأساء إليه موقعه الجغرافي وأهميته السياسية والاستراتيية، فلج به الغرب وطمع فيه الاستعمار، وطوقته الجنود الأجنبية وكان مسرحاً لبقايا الحضارة الشرقية والنظام الاقطاعي والحكم الشخصي المترف والبذخ والتفاوت الشديد بين الطبقات في المعيشة.
ثم كان أن خفت في العالم العربي صوت الدعوة الدينية من زمان، وانقرض الرجال الذين كانوا يكافحون المادية ويكبحون جماحها ويلطفون من حدتها، بدعوتهم إلى الله وإلى الآخرة وإلى الزهد والاعتدال في الحياة وقمع الشهوات، ويشعلون جمرة الايمان، واستسلم العلماء ورجال الدين لتيار الغرب وتغيرات العصر، فوضعوا أوزارهم للمدنية الغربية، وهجم عليه الأدب الشهواني والصحافة الماجنة، فحلت العقد ونفخت في الشهوات، واجتمع بعض ذلك إلى بعض، حتى أصبح هذا العالم منحلا منهاراً متداعياً، لا يمسكه الايمان، ولا تحفظه القوة المعنوية ولا تقف في طريق اندفاعه دعوة قوية.
لابد من تجديد واسع عميق يقلب تيار الحياة :
في مثل هذه الفترات المظلمة والسحب المتراكمة كان الله يبعث الأنبياء والمرسلين في الزمن السابق، ولكن لا نبوة بعد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم تكسف شمسها ولم يتوار نورها، ودينه لا يزال حياً، والكتاب الذي جاء به لا يزال محفوظاً، وأمته التي أرسلت معه لتبليغ رسالته والقيام بدعوته لا تزال على وجه الأرض ولا تزال فيها الحياة والروح.
لقد أغنانا الله بفضل دينه المحفوظ وكتابه المتلو ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم عن رسالة جديدة ورسول جديد.
ولكن لابد من تجديد واسع، ودعوة صارخة وكفاح شديد يغير هذا الوضع الجاهلي الذي تورط فيه العالم الاسلامي تورطاً قبيحاً وأمعن فيه العالم العربي إلى أبعد حد، وقد وعد الله وأخبر رسوله باستمرار هذه الدعوة الاسلامية وبقاء التجديد ودوام الكفاح في تاريخ الاسلام ضد الجاهلية التي ترفععقيرتها زمناً بعد زمن وحيناً بعد حين، وقد أصبح خطب العالم الاسلامي وفساد أحوال المسلمين وانحرافهم عن جادة الاسلام وطغيان بحر المادية أعظم وأوسع من أن يتدارك بجهود فردية، وخطب منبرية، ودروس دينية، ومباحث فقهية، ومسائل جزئية، ومحاربة الأفراد والأشخاص، إن السيل لا يمسكه إلا السيل مثله، والتيار لا يدفعه إلا تيار أقوى منه، فلا بد من كفاح عنيف وصراع شديد يغير مجرى الزمن ويقلب تيار الحياة من جهة إلى جهة، ويحدث انقلاباً في المجتمع والحياة وفي الأذواق والرغبات وفي قيم الأشياء وموازينها.
تغيير عميق في القلب والنفسية :
وليس خطب الدعوة الدينية والتجديد الاسلامي بهين، فليس رسالتها ومهمتها قلب نظام أو تغيير وضع سياسي بوضع سياسي آخر، ونظام اقتصادي بنظام اقتصادي آخر، ولا نشر الثقافة والعلم، ومكافحة الأمية والجهل أو محاربة البطالة والتعطل، أو معالجة عيوب اجتماعية أو خلقية أو غير ذلك مما يقوم له الدعاة والمصلحون في أوربا وفي الشرق، إنما هي دعوة الاسلام التي تشمل العقيدة والأخلاق والأعمال والعبادة والسلوك الفردي والجماعي، وتتناول العقل والقلب والروح والجسم، وتعتمد على تغيير عميق في القلب والنفسية والعقيدة والعقلية، وتنبع من القلب قبل أن تنبع من قلم أو صحيفة، أو كتاب أو منصة خطاب، وتنفذ على جسم الداعي وحياته قبل أن تطالب بتنفيذها على المجتمع والأمة.
دعوة جديرة بالأنبياء :
هذه الدعوة كانت جديرة في الحقيقة بالأنبياء ومواهبهم وقواهم ورسالتهم وإيمانهم وجهادهم وثباتهم وفقههم وحكمتهم وإخلاصهم، ولكنها ليست خاصة بالأنبياء بل هي دعوة خلفائهم وأتباعهم كذلك، ودعوة كل عصر ومصر، وحاجة الانسانية كلها والعصور كلها… فلا بد أن تجدد في كل زمان وفي كل محيط، وتكون على أساس دعوتهم مطابقة لسيرتهم.. مقتبسة من مشكاتهم، فلنرجع إلى هذا المصدر، ولندرسه دراسة عميقة.
جوانب هامة تمتاز بها هذه الدعوة :
وإذا تتبعنا سيرة الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم رأينا جوانب كثيرة تمتاز بها سيرتهم، وتقوم عليها دعوتهم، عن تلك التي تميز بها القادة والمصلحون من عامة البشر.
الالتجاء إلى الله :
-1 الالتجاء إلى الله في جميع مراحل الدعوة والجهاد، بل في جميع مراحل الحياة… والاطراح على عتبة عبوديته اطراح الفقير الكسير، والإرتماء في أحضان رحمته إرتماء الطفل الصغير في أحضان أمه، والإيمان بأنه هو النافع الضار، والناصر الخاذل، وأن لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولا كاشف لضره، ولا ممسك لرحمته، ولا سهل إلا ما جعله سهلا وهو يجعل الحزن سهلا، وينصر الضعيف على القوي والقليل على الكثير، والضعيف مع نصره قوي، والقليل مع رحمته كثير.
هذا الإيمان كان يوحى إليهم بالابتهال في الدعاء وإطالة الوقوف ببابه وشدة الالتزام بأعتابه، والالحاح في المسألة، ويلهمهم المعاني العجيبة والتعبيرات الرقيقة، ولننظر إلى قول سيد الأنبياء وسيد الدعاة إلى الله يوم القيامة وهو يمثل خير تمثيل لايمانه وشعوره بفقره وضعفه وافتقاره إلى رحمة الله :
((اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير، ودعاء من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسمه، ورغم لك أنفه، أللهم لا تجعلني بدعائك شقياً، وكن بي رؤوفاً رحيماً يا خير المسؤلين ويا خير المعطين)).
ولنذكر دعاءه صلى الله عليه وسلم في الطائف وقوله :
((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن ساخطاً علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك))، ونذكر موقفه في بدر، قال ابن اسحاق : ((ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فدخل ومعه فيه أبو بكر ليس معه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعد من النصر ويقول فيما يقوله ((اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد)).
هذه كانت عُدّة الأنبياء عليهم السلام، وقوتهم ومفتاح دعوتهم، فقد امتازت دعوتهم بتقديم الدعاء والاهتمام به من الابتهال فيه، وليس الدعاء إلا رمزاً للانابة إلى الله والاعتماد عليه والاعتزاز به، فامتازت دعوتهم وجهادهم في سبيلها بطابعهما الروحي والايماني، وقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال تعالى : ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) ولا شك أن جهاد الدعوة أعظم من أن يضطلع به الانسان بقوته الجسدية وعدته المادية وكفايته العقلية والعلمية، ولا يستقل به إلا بالقوة الروحية ونصر الله ومعونته، وإن هذه الصخور العظيمة بل الأطود الشامخة التي تقف في سبيل الدعوة وتهجم على رؤوس الدعاة وتصطدم بجهودهم لا تذوب إلا بنصر الله الذي يستنزل بالدعاء، والالتجاء إلى الله.
المرحوم أبو الحسن علي الحسين الندوي