لقد أقام الله عز وجل هذا الوجود على قيم عالية ومثل سامية من بينها : الحق، والعدل، والخير، والجمال، فالحق في الوجود أصيل، لأن الوجود صادر عن الحق لا عن الصدفة الباطلة، والقيم في الوجود أصيلة، لأن العدل والخير والجمال هي مظاهر وتجليات لقيمة الحق.
وقد فطر الله تعالى الإنسان -وهو جزء من الكون- ودفعه إلى الفعل والسعي لأجل تحقيق هاته القيم التي قام عليها الوجود، وحتى يتمكن الإنسان من تحقيق غاياته، وتطلعاته فقد سخر له الله عز وجلّ ما في الكون جميعا {هو الذي خلق لكم ما في الأض جمِيعا}(البقرة : 98) {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه}(الجاثية : 12).
لكن الإنسان انحرف عن الحق وحاد عن الصواب وزاغ عن الطريق القويم والنهج السليم في أعماله وتصرفاته ومواقفه وسلوكاته وممارساته فردية كانت أم جماعية،فابتعد عن تلك القيم وكانت كل أفعاله باطلة، فأفسد الحياة بعد أن خلقها الله صالحة {ولا تُفْسِدوا في الأرضِ بعد إصْلاحها}(الأعراف)، وأصبحت حياة مبعثرة، ضائعة، أصبح الناس يعيشون في ضلال مبين، وأي ضلال أكبر من أن يجهل الإنسان قيمته في الكون ووظيفته في الحياة {ومَا خَلَقْتُ الجِنّّ والإنْس إلا لِيَعْبُدون}، فيتخذ آ لهة من دون الله لا تضر ولا تنفع {واتخذوا من دون الله آلهة لعلّهم يُنْصرون لا يسْتطِيعون نصرهم وهم لهُم جُنْد مُحضرون}(يس 74، 75).
إن هذه الحياة لن تصلح ولن تستقيم إلا إذا زهق الباطل من كل جوانبها، ولا يزهق الباطل إلا بظهور الحق {قُل جاءَ الحَقُّ وزهقَ الباطِل إنّ البَاطِل كَانَ زَهُوقاً}(سورة الإسراء) ولا يظهر الحق إلا بوجود أهله، لذلك فالحياة محتاجة إلى رجال يجهرون بالحق، ولا يخافون في الله لومة لائم، رجال نذروا أنفسهم وأموالهم وعلمهم وجاههم وسلطانهم لله، فيسخروا ما عندهم لأجل إعلاء كلمة الله رجال يرفضون الوثنية بكل أنواعها وصورها ويأبون إلا التوحيد، رجال يعرفون معنى “لا إله إلا الله” فلا تُطَأْطَأ جباههم لغير الله ولا ينحنون راكعين أو ساجدين إلا لله، رجال يعرفون معنى العزة والكرامة، فلا يطلبونها من غير الله ولا يجدونها بعيداً عن شرع الله، رجال تأسوا بأصحاب رسول الله في أفعالهم الحميدة وأخلاقهم الكريمة، واستقوا من معين فضائلهم، واستضاؤوا بنور مكارمهم، ونهجوا في التربية نهجهم، وساروا في بناء المجد سيرهم، رجال جَعلوا هداية الناس وإصلاح المجتمع والسعي إلى إقامة حكم الله في الأرض أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية الغايات، ومنطلق العزائم، رجال يؤثرون الدار الآخرة على الدنيا {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين}(القصص : 83).
وما الباطل إلا كشجرة خبيثة اجتثثت من فوقالأرض مالها من قرار، ومن التجأ إلى أهله واستعان بهم فكأنما أمسك بخيط عنكبوت {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوث اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}(العنكبوت : 41) ومن ا بتغى العزة عند أهل الباطل ازداد ذلا وانكساراً {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}(آل عمران : 150، 151)، {بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المومنين، أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}(النساء : 138، 139).
كثيرة هي الآيات القرآنية التي تنذر بعواقب الإفساد في الأرض، وذلك من خلال تشديد الوعيد تارة، ومن خلال التذكير بمآل ونهاية المفسدين على مرّ الأزمنة والعصور.
- {كلا لئن لمن ينته لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة، فليدع ناديه سندع الزبانية}(سورة العلق)
- {فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى}(سورة النازعات).
- {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم}.. {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا}، {فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين}(القصص).
- {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا، وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(العنكبوت : 40).
فليحذر الذين بغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد أن يصيبهم عذاب الله {الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد}الفجر .
{ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً}(النساء : 136).
فسدت الحياة أيّما فسادٍ، وعمّ الباطل كل جوانبها :أين الحق في تشريعاتنا؟ أين الحق في تربيتنا؟ أين الحق في ثقافتنا؟ أين الحق في إعلامنا؟ أين الحق في سلوكنا الفردي والاجتماعي؟ أين الحق في تقاليدنا الاجتماعية؟ أين الحق في مؤسساتنا كلها؟ أين الحق في معاملاتنا الاقتصادية والتجارية، والمدنية، والإدارية؟ كل هذا نجده بعيداً عن الحق ومعزولا عنه تماماً. لقد زاغ عن الحق وغرق في الباطل، فأصبح الكل باطلا. وأدى إلى أمم متناحرة ودول متخاصمة متنابزة، تتقاذفهم الأهواء، وتجتذبهم المطامع، وتفرقهم المبادئ وينساقون وراء الشهوات والملذات، ويتخبطون في أوحال التحلل والإباحية، ويسيرون بلا هدف ولا غاية، ويعيشون من غير سعي إلى مجد ولا وحدة ولا كيان، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وتظنهم قوة ولكنهم غثاء كغثاء السيل.