عقيدة التوحيد هي التي صنعت الرجال في كل زمان، وسل التاريخ عنهم قبل بعثه للمصطفى وبعده، سل عن الذين اصطفاهم الله من بين خلقه من النبيين والرسل الكرام من لدن آدم حتى رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه. سل القرآن عن إيمانهم ومواقفهم وثباتهم وتضحياتهم، سله عن زكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإبراهيم وإخوانهم، سل عن أصحاب الأخدود {النّار ذاتِ الوقُودِ إذْ هم عليها قُعُود وهم على ما يفعلُون بالمؤمنين شهودٌ وما نقمُوا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيزالحميد الذي له مُلْك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد}(البروج : -5 9)
وَقِفْ متأملاً حال سحرة فرعون وكيف صنعت عقيدة التوحيد فيهم، وهم الذين ما عرفوا لهم قبلها رباً إلا فرعون، فأقسموا بعزته، واحتموا بقوته، وافتقروا إليه، فلما دخل الإيمان قلوبهم صاروا رجالاً وهانت عليهم أرواحهم، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا حين هددهم أطغى الطغاة وأبغى البغاة بقوله : {آمنتم له قبلَ أن آذنَ لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلافٍ ولأصلبنّكم في جذوع النخل ولتعمنّ أيُّنا أشدّ عذاباً وأبقى قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}(طه : -71 73).
وتعلم الصحابة رضوان الله عليهم من رسولهم هذا الثبات منذ اليوم الذي قال فيه : >والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه< فكان الله غايتهم والرسول قدوتهم والقرآن دستورهم والجهاد سبيلهم والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، وكانوا يرددون وهم يعذَّبُون “أحدٌ أحدٌ”.
وسلْ التاريخ عن ياسر وعمار وسمية وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم، وغيرهم رجالاً، ونساء، شباباً وشيبة.
سلْ عنهم في بدرٍ وأُحُد وحمراء الأسد، يوم أن قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، يوم تحزب الأحزاب {فلمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدَنا الله ورسوله وصدقَ الله ورسولُه وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً}(الأحزاب : 22).
وما حدث في هذه الغزوات من المواقف الإيمانية والتضحيات البطولية حدث مثله في اليرموك وحطين والقادسية وغيرها من المواقع والمواقف التي سجلها بسطور من نور، وما صلاح الدين منا ببعيد، فأين أنت يا صلاح الدين لتقود المسيرة وتعيد إلينا ماضياً تليداً، وتاريخاً مجيداً؟.
العقيدة التي صنعت هؤلاء مازالت قادرة على صنع غيرهم :
تستطيع العقيدة الإسلامية أن تصنع أمثال صلاح الدين، بل وآلافاً من أترابه وتصبغهم بصبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، نعم : أو ليست العقيدة الإسلامية التي حولت الحفاة العراة عُبّاد الصنم والحجر والوثن والشجر إلى جحافل دانت لهم فارس والروم وغيرها من الممالك، وجمعتهم بعد تمزق، وأعزتهم بعد ذل، وأغنتهم بعد فقر، وألفت بين قلوبهم بعد عداء فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، فتحوا بها قلوب العباد قبل البلاد، بأخلاقهم الكريمة وسيرتهم الحميدة، فأصبحوا أساتذة البشرية، ومازال ثناء الله عليهم في القرآن غضاً طرياً ولا يزال إلى أن يرث الله الأرض وما عليها {محمد رسول الله والذينَ مَعَهُ أشّداءُ على الكُفّار رُحَماء بينهم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغُون فضلا من الله ورضوانا سِيماهُم في وجُوهِهم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرجَ شطْأَهُ فآزره فاستغلظ فاستَوى على سوقِهِ يُعْجِبُ الزَُّّرّاعَ ليغيظَ بِهم الكُفّار}(الفتح : 29) لنقتفي أثرهم وننهج نهجهم.
إنها نماذج إيمانية رفع الله منزلتها وأعلى مقامها، وخلّد ذكراها واستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمناً ورضي عنهم ورضوا عنه وأعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
وكأني بقائل يقول إن الذي ربّى هؤلاء وتعهد هذه الغراس المباركة خير خلق الله -محمد – وأنّى لنا؟ فلن يتكرر هذا الجيل.. وهذا حق ما في ذلك شك، فخير القرون القرن الأول ثم الذين يليه ثم الذي يليه، وفضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أثبته لهم رب عظيم في كتاب كريم، ولكن يبقى المنهج الذي صنع الرجال دائما بدوام الليل والنهار ويوم أن توفي الرسول قالها الصديق : من كان يعبد محمّدًا فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت {وما محمّد إلا رسولٌ قد خلت من قبلهِ الرّسل أفإن مات أو قُتِل انقلبتُم على أعقابِكُم، ومن ينقلب على أعقابه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}(آل عمران : 144) وإلا للزم لنا بعثة رسول جديد، وهذا محال.. فرسولنا خاتم النبيين، به أتمّ الله النعمة وأقام الحجة والخير في أمته إلى يوم القيامة >لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم< أو كما قال .
والتاريخ أصدق شاهد، فكم من رجال حملوا هذه العقيدة بعد وفاة رسول الله ، وفتحوا المشارق والمغارب؟ وهل الفتوحات الإسلامية التي أكرم الله المسلمين بها تمت إلا على أيدي رجال آمنوا بربهم وزادهم هدى بعد وفاة الرسول . واقرأ التاريخ لترى كم فيه من هؤلاء الأفذاذ إلى يومنا هذا؟ حملوا لواء “لا إله إلا الله” وذادوا عنه وحموه بأرواحهم ومهجهم وأموالهم واشتروا الجنة بالدنيا وما فيها {إنّ الله اشترَى من المؤمنين أنفُسهم وأموالَهُم بأن لهم الجَنّة يُقَاتِلُون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعْداً عليه حقّاً في التّوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعِكم الذي بايعتُم به وذلك هو الفوزُ العَظِيم}(التوبة : 111).
إنها العقيدة الإيمانية التي نهتم بتعميقها في القلوب لأنها الأصل. في تعاليم الدين نظم خلقية واجتماعية كثيرة تتناول الحياة الخاصة والعامة من القاع إلى القمة، لكن هذه التعاليم كلها بناءٌ دعامتُه العقيدة، أو هي أعمال غايتها وجه الله، فإذا انهارت الدعامة، أو اختلفت الغاية فقدت هذه النظم الخلقية، والاجتماعية طابعها، وقيمتها النفسية، صارت شيئاً آخر له قيمة أخرى كما تفقد الأوراق المالية قيمتها إذا فقدت رصيدها الذهبي، فالدّينُ قبل كل ّشيء شعورٌ ووجدانٌ وإيمانٌ ويقينٌ، واعترافٌ بحقّه، في حكم عباده، ووضع المبادئ التي ينطلقون منها والحدود التي ينتهون إليها(1).
ولذلك عرفوا الإيمان بأنه عمل نفسي يبلغ أغوار النفس ويحيط بحواسها كلها من إدراك وإرادة ووجدان فلا بد من إدراك ذهني تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه في الواقع، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، ولابد أن يبلغ هذا الإدراك الجزم الموقن، واليقين الجازم الذي لا يزلزله شك {إنّما المؤمنون الذين آمنُوا بالله ورسوله ثم لمْ يرتَابُوا}(الحجرات : 15) ولابد أن يصحب المعرفة الجازمة إذعان قلبي وانقياد إرادي يتمثل في الخضوع والطاعة والرضى والتسليم {فلا وربّك لا يُؤمِنون حتى يُحكّموك فيمَا شَجَر بَيْهم ثم لا يَجِدُوا في أنْفُسِهم حرجاً مما قضيَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(النساء : 65) ولابد أن يتبع ذلك المعرفة، وهذا الإذعان، حرارة وجدانية قلبية تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة والالتزام بمبادئها الخلقية والسلوكية، والجهاد في سبيلها بالمال والنفس وبذلك تنفذ هذه العقيدة إلى العقل فتقنعه وتطمئنه، وإلى القلب فتهزه وتحركه وإلى الإرادة فتدفعها وتوجهها، وإذا اقتنع العقل، وتحرك القلب واتجهت الإرادة، استجابت الجوارح، واندفعت للعمل استجابة للراعي الصالح.(2).
—–
(1) عقيدة المسلم -الشيخ محمد الغزالي- ص 124.
(2) هذا التعريف للدكتور يوسف القرضاوي من كتابه الإيمان والحياة بتصرف.
من كتاب الفرقان والقرآن
للشيخ خالد عبد الرحمن العك