“ذكورية الفقه ورجوليته” مقولة شيطانية أخذت تطرق الأسماع وتشق طريقها إلى بعض القلوب. وبدأت بعض العناصر المشبوهة تروج لها في الملتقيات والندوات ومختلف وسائل الإعلام. وتسربت إلى خطاب بعض المسؤولين والمثقفين غير الواعين بخطورتها وما تهدف إليه من تشويه لهوية الفقه والنيل من قدسيته واتهام له بالتحيز للرجل ضد المرأة وعدم إنصافها منه ووقوفه وراء ما تعانيه من ظلم وجور وتهميش على يد الرجل أبا وزوجا وأخا وأجنبيا. وهو اتهام خطير الهدف منه تحريض المرأة المسلمة على كراهية الفقه وحثها على التمرد عليه ورفض أحكامه بعدما حيل بينها وبين تعلمه في المدرسة والجامعة، وتغييبه من الساحة العامة ليسهل سلخها من دينها والحيلولة بينها وبين رسالتها التي تفرض عليها تربية أطفالها تربية إسلامية صحيحة يحظى فيها الفقه بالمكانة الأولى لقوله : >منيرد الله به خيراً يفقهه في الدين<.
إن اتهام الفقه بالذكورية والرجولية يثير السُّخرية ويدل بوضوح على ما يتخبط فيه خصومه من ارتباك وما يتصفون به من جهالات متراكمة بعضها فوق بعض. جهالة بمفهوم الفقه ونشأته، وعلاقة الفقيه به، وجهالة بواقع الفقه وأحكامه، وجهالة بحِكمه وأسراره.
إن اتهام الفقه بالذكورية جهالة بمفهوم الفقه الإسلامي وطبيعته ونشأته وعلاقة الفقيه به ودوره فيه ومدى تأثره به أو تأثيره فيه، لأن كثيرا من الناس وخاصة منهم الذين لا صلة لهم بالفقه يعتقدون أو يظنون أن الفقه مجرد عمل بشري يتأثر بأحاسيس الفقيه ومشاعره، وينبعث من عواطفه أو يعبر عن آرائه وطموحاته ويعكس شخصية صاحبه كما هو الشأن في الأدب والرسم وغير ذلك من الإبداعات الفنية، وبالتالي فالفقيه في نظرهم هو واضع الفقه ومشرعه وبذلك فهم يحملونه مسؤولية كل ما لا يرضيهم من فقه ولا يستجيب لرغباتهم وأهوائهم منأحكام، يتهمونه بالتشدد والتزمت حينا، وبالتحيز والتعصب حينا آخر، وقد يصلون في بعض الأحيان إلى ضربه أو حرق كتبه أو طرده وقتله كما يحدثنا التاريخ عن ذلك : فقد جلد مالك وطِيفَ به على جلالة قدره لمجرد فتواه أن “طلاق المكره لا يلزم” نتيجة الجهل بحقيقة الفقه ودور الفقيه فيه.
والحقيقة أن الفقه مجوعمة من الأحكام الشرعية بعضها وحي من الله تعالى نزل به الروح الأمين على قلب محمد في الكتاب والسنة في شكل نصوص قطعية الدلالة أو ظاهرة الدلالة ليس للفقيه أمامها إلا الايمان بها والالتزام بها، إذا لم يجد ما يعارضها مما هو مثلها أو أقوى منها. وليس من حقه ولا من حق غيره ردها والاعتراض عليها أو تعديلها لأنها وحي من الله وهو وحده الذي يعدلها أو ينسخها.
كما أن هناك مجموعة أخرى من الفقه تعتبر اجتهادية، إلا أنه بالرغم من صفتها الاجتهادية فإن الفقيه لا يستقل بصياغتها، ولا حرية له في سنّها وتقرير ما يشاء من أحكام واختيار ما يريد منها، بل هو ملزم بضوابط معينة، ومعايير محددة، ومرجعية ثابتة، لا تتأثر بذكورة، ولا أنوثة ولا خنوثة لأن الفقه شرع الله وقانونه المعبر عن حكمه تعالى وإرادته.
والفقيه مجرد باحث عن ذلك الحكم الغائب المجهول، ومكتشف له، إذا عثر عليه من خلال الأدلة الشرعية المنصوبة عليه أعلنه والتزمه في عمله وإفتائه وقضائه وتعليمه ونسب إليه لأنه اكتشفه، وإذا لم يعثر على الحكم توقف وقال : لا أدري. فمثل الفقيه في ذلك مثل الباحث عن المعادن النفيسة لا يخلقها في الأرض ولا يوجدها فيها، ولكنه يكتشفها، ولكنه لا يمكنه الإعلان عن وجودها إلا بعد التأكد من ذلك بالدلائل الدالة عليها.
ولهذا يعرف الأصوليون والفقهاء الفقه بأنه “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية”.
فالفقه في مصطلح الشريعة الاسلامية هو مجرد العلم بتلك الأحكام فقط، ومجرد المعرفة بها وكفى، لا شرعها وسنها، والفقيه لا يحكم ولا يشرع حكما، لأن الحكم لله وحده كما قال تعالى : {إن الحكم إلا لله}(الأنعام : 57) ودور الفقيه منحصر في البحث عن الحكم واكتشافه بوسائل محددة يستوي في التزامها والتقيد بها الرجل والمرأة، الفقيه والفقيهة متجردين من صفات الذكورة والأنوثة خلال بحثهما، واسترشادهما بدلائل ونصوص منزهة عن التذكير والتأنيث وخالية من علامتهما.
فلماذا يصر قوم على اتهام الفقه بالذكورية بعد هذا؟
يؤكد هذا أن هناك اجتهادات رجالية جاءت ضد الرجل، واجتهادات نسائية جاءت ضد المرأة، كما أن هناك اتفاقات نسائية ورجالية لصالح المرأة ضد الرجل والعكس وكمثال على ذلك :
-1 حق المرأة في الخروج للمسجد : فإن عائشة رضي الله عنها كانت ترى منعها من ذلك وتقول : لو أن رسول الله رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو اسرائيل نساءها..<(متفق عليه) بينما كان ابن عمر يرى أن للمرأة الحق في الخروج للمسجد لحديث : >لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن<(رواه الجماعة إلا ابن ماجة) انظر نيل الأوطار -130/3 .131
-2 حق المرأة في ولاية النكاح : فقد قالت عائشة رضي الله عنها : >لا حق للمرأة في عقد النكاح على نفسها ولا على غيرها من النساء، لما روته من حديث : >أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل قالها ثلاثاً..<(رواه أبو داود).
في حين يرى أبو حنيفة أنه يجوز للرشيدة أن تزوج نفسها، كما يجوز لها أن تبيع مالها، وقد أخذ الجمهور بقول عائشة وقول أبي حنيفة ضعيف لأنه قياس في محل النص.
-3 حق المبثوثة في النفقة والسكنى : فقد كانت فاطمة بنت قيس وهي من المهاجرات الأول ترى أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وكان عمر ] يخالفها ويرى لها النفقة والسكنى.
-4 المتوفى عنها كانت عائشة رضي الله عنها لا ترى لها سكنى وكان ابن عمر يرى لها السكنى والنفقة أثناء العدة.
-5 المبثوثة في مرض الزوج : كانت عائشة رضي الله عنها لا ترى لها ميراثا إذا انقضت عدتها، وكان مالك يرى لها الميراث ولو تزوجت زوجا آخر. انظر المحلى .319/10
-6 الخلع بجميع ما تملكه الزوجة : كانت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها ترى جوازه وصحته وخالعت زوجها على ذلك فأقرها عثمان على ذلك، وكان علي بن أبي طالب ] يرى أنه لا يجوز إلا بما أعطاها من الصداق. المحلى .200/10
وقد أخذ الجمهور برأي الربيع وقضاء عثمان لعموم قوله تعالى : {فلا جُناح عليهما فيما افتدت به}(البقرة : 227).
وأحيانا كانت ترى المرأة في اجتهاد الرجل ما يمس بحق المرأة فتراجعه وتجادله ويتحاجان فيرجع الى رأيها أو ترجع إلى رأيه عند ظهور الحجة وقيام الدليل واقتناع أحدهما برأي الآخر وصوابه، أو يبقى كل على رأيه واجتهاده وهم في جميع الحالات يبحثون عن الحق والصواب لا يدافعون عن المرأة، ولا يحاربون ضد الرجل، ولا يتبنون العكس فيدافعون عن الرجل ويحاربون ضد المرأة وقوفا مع قوله تعالى : {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض}(التوبة : 72) والولاء ضد العداء وكمثال على ذلك:
-1 فقد عزم عمر ] على تحديد مهور النساء في اثنتي عشرة أوقية، فرأت امرأة في ذلك مسا بحق المرأة في الصداق، فردت عليه بقولها : يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول : {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تاخذوا منه شيئا}(النساء : 20) فرجع إلى قولها وقال كلمته المشهورة : أصابت امرأة وأخطأ عمر.
لم ير عمر ] وهو أمير المومنين أية غضاضة في اعترافه بخطئه علنا ورجوعه إلى قول امرأة لأنه رأى في ذلك الاعتراف رجوعا إلى الحق ونجاة من خطاء اجتهاده.
فقد كان عذره وحجته في قراره الحرص على اتباع السنة النبوية التي أشار إليها بقوله : لو كان -غلاء الصداق- مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله . ما أصدق قط امرأةً من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. ففهم من هذه السنة الفعلية المتكررة تحديد الحد الأقصى للصداق وغابت عنه الآية التي استدلت بها المرأة، فلما سمعها رجع إليها وارتاح لها لصراحتها في عدم التحديد.
-2 ما روي عن عبد الله بن مسعود ] أنه قال : : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله< فبلغ ذلك امرأة تحفظ القرآن رأت في ذلك مسا بحق النساء في التجمل والتجميل فأنكرت عليه ذلك، فقال لها : مالي لا ألعن من لعنه الله وهو في كتاب الله فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر : 7) قالت : بلى، قال : فإن رسول الله نهى عنه، قالت : إني لأظن أهلك يفعلونه، قال : اذهبي فانظري فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت : ما رأيت شيئا فقال : لو كانت كذلك لما جامعتها”. البخاري بشرح الفتح .630/8