الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح (رئيس مجمع اللغة العربية بالجزائر) لــ””المحجة””:
< تعلو العربية بعلو العرب والمسلمين
< اللغة والهوية < قطار التعريب في المغرب العربي
على هامش الندوة التي أقامتها كلية الآداب بفاس ومعهد التعريب بالرباط، التقت المحجة الدكتور عبد الرحمان الحاج صالح بعد تعيينه رئيساً لمجمع اللغة العربية بالجزائر بحوالي أسبوع، وكان هذا الحوار :
حاوره : محمد البنعيادي
اللغة والهوية
< من خلال تجربتكم الشخصية في مجموعة من المجامع العلمية على امتداد العالم العربي وحتى الغربي وما راكمتموه من خبرات طوال سنوات من التحصيل والعطاء، ما هي رؤيتكم لطبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والهوية؟
>> بطبيعة الحال، الهوية أساسها قبل كل شيء اللغة. ولكن ليست اللغة وحدها كما هو معروف، قد يكون التمسك الشديد بالدين يجعل جماعة من الناس الذين يدينون بهذا الدين هويتهم تتميز أكثر من غيرهم، وقد تكون الأرض والانعزال في جهة من الجهات يجعل جماعة من الناس يمتازون بهوية خاصة، لكن اللغة، ظاهرة شاملة مطردة هي الأساس وتجعل الشخص صاحب هوية معينة. والهوية طبعاً ليست فقط ما يميز جماعة عن جماعة أخرى في العوائد وكيفية التفكير والتصور..الخ هي أيضا منهجيته في العمل والسلوك، وهي أيضا تنعكس على كل ما تتميز به عن غيرها في ما تحمله اللغة. اللغة مشحونة بمفاهيم، في الغالب تنتمي إلى جماعة معينة، ولهذا، فالإنسان الذي يتكلم لغة ليل نهار وهو من أهلها وأيا كان، وسواء كان أصله من جماعة أخرى أو دين…الخ فهو يفكر ويتصور وينظر إلى ما حوله ومحيطه مثل هؤلاء الذي ينطقون بهذه اللغة، لكن أشترط أن يكون يتكلم هذه اللغة صباح مساء، أما الذي يعرف لغة من اللغات غير اللغة الأصلية له وينطق بها عند الحاجة فهذا ليس من أهلها، فبالنسبة للمغاربة والجزائريين، والتونسيين الناطقين بالفرنسية في كل مناسبة حتى في البيت، فهؤلاء ميالون إلى كل ما تعتمد عليه الحضارة الفرنسية والتصور الفرنسي.. وهذا فيه خطر… إنهم انغمسوا في حضارة أخرى بسبب اللغة. أما قضية التأثر باللغات الأجنبية : السبب فيه جمود الفكر العربي، وهذا ليس له أي علاقة بالهوية وإنما له علاقة بعدم التفتح.
فعدم معرفة الباحث المتخصص في الفزياء أو الكيمياء.. اللغات الأجنبية لا يسمح بتجديد المعلومات لأن الاكتشافات صارت يومية في الطب… الكتب المنقولة من اللغات الأجنبية إلى العربية مهما بلغ عددها فهي لا تفي بالغرض. ضرورة معرفة اللغات الأجنبية قد تكون مثل التمسك بالهوية ربما، كأنها ضرورة مادية، من ملزمات العصر، فالمهندسون الفرنسيون في التكنولوجيا مثلا مضطرون إلى معرفة الانجليزية معرفة كاملة، وإلا فاتهم الركب الحضاري، ولهذا فالفرنسي مهما كان تعصبه للغته الفرنسية فإنه لا يخجل من تعلم الانجليزية ألى حد الاتقان.
في البلدان العربية نجد كثيراً من الأساتذة وحيدي اللغة Monolingue، وهذا أمر خطير جداً. وقد يكون الإنسان معذوراً شيئاً ما في العلوم الانسانية، والأدبيات، صحيح أن من بين العلماء الكبار شخصيات وهم أيضا لا يتقنون اللغة الأجنبية، ولكن هؤلاء أفذاذ مثل الشيخ ابن باديس عندنا في الجزائر والأستاذ علال الفاسي في المغرب وهؤلاء لا يقاس عليهم. الوقت الراهن يقتضي منا إتقان اللغة الأصلية التي هي العربية، وخاصة من المسيرين وأصحاب القرار والمخططين الذين يكون مستقبل الأمة مرهوناً بهم، فهؤلاء لابد وأن يكونوا على علم إلى حد المهارة باللغات الأجنبية.
قطار التعريب في المغرب العربي
< مسألة التعريب نقطة مشتركة بين دول المغرب العربي، وقطار التعريب انطلق تقريباً بعد الاستقلال مباشرة ومر بمجموعة من المراحل، وباعتبار اهتمامكم بهذا الموضوع، إلى أين وصل هذا القطار، ليس فقط فيما يتصل بالمناهج التعليمية، وإنما كذلك فيما يتصل بتعريب الإدارة، وهل يمكن للتعريب أن يسير بخطى سريعة في مجال الادارة أكثر منه في المدرسة أو العكس؟
>> التعريب أقسام : تعريب المحيط، تعريب الادارة، وكل ما هو رسمي… إلى تعريب التعليم. تعريب التعليم هو واقع في المغرب والجزائر إلى حدود الثانوي دون الوصول إلى العالي. وارتبط ذلك دوماً بموجات سياسية.
ففي 1980وبين عشية وضحاها قررت الحكومة الجزائرية تعريب العلوم الانسانية دون إعداد أي برنامج ولا أساتذة، وأكثر من نصفهم كان لا يتقن العربية، فإذا بهم يبدأون بالتدريس بالعربية، هذه البلبلة ينبغي أن نتحاشاها ونتجنب هذا النوع من التعريب المرتجل. صحيح أنه لابد أن نعرب تدريجياً ولكن بدراسة، بتأمل، بإعداد.. لأن تعريب المواطن أخطر وأهم من تعريب الإدارة نفسها.
إن تعريب الشخص أهم من تعريب النظام أقول أهم لأن الشخص هو الذي يسير هذا النظام وهذه المنظومة- فإذا كان الشخص المسير ناقصاً في اللغة فكيف يسير وهو لا يتقن العربية والإدارة معربة، هذا شيء متناقض. التعريب لابد أن يخطط له وأن يكون له أهداف، ومراحل، وأن تكون هناك سياسة لغوية حكومية واضحة ويرجع في ذلك إلى الشعب، ويسأل الشعب : ما رأيك؟ وماذا تريد؟ وتكون ندوات تحضيرية.. وبعد ذلك يكون هناك مخطط لمدة معينة بعدما يتم تعريب الأشخاص.
الذي نعيشه الآن في الجزائر مثلا هو تصارع، كفاح مرير بين المعرب والمفرنس، وكل واحد يريد أن يفرض على الآخر رأيه، ولذلك فكلمة “تعريب” أصبحت حساسة ولذلك أفضل عبارة “استرجاع العربية لمكانتها”. وكنت أدعو إلى أن تدخل المواد المعربة في الجامعة دون أن يكون هناك ازدواج للمادة الواحدة، لأن الازدواجية تخلق جيلين متعاديين واحد مفرنس وآخر معرب، ولا يزال هذا قائماً إلى الآن في الجزائر.
< فشلالتعريب خلال ما يقرب من 50 سنة، هل هو متعلق في نظركم بإرادة سياسية أم بمشاكل واقعية حقيقية؟
>> الأمر متعلق بالوجهين معاً، وإن كان الارتجال وعدم التخطيط وعدم الاتفاق بين المسؤولين الكبار والبلبلة عند أصحاب القرار والفوضى الفكرية وعدم التصور السديد الذي ينظر إلى بعد، لأن الإنسان الذي يريد أن يعرب كل شيء في وقت محدد دون إعداد هو فقط يرد الفعل على المفرنس الذي يريد أن يفرض عليه الفرنسية، فأصبحت هناك حرب طو ائف وطبقات دون أن يكون هناك واحد مخلص للعربية أو الفرنسية، وإنما يريدون المحافظة على مناصبهم ونحن لا نريد ذلك، نريد فقط استرجاع العربية لمكانتها بكيفية موضوعية تقتضي الدراسات والتأمل والتبصر والتشاور حتى نصل إلى اتفاق شامل لمدة طويلة.
< في ظل ثورة المعلوميات، هل يمكن الحديث عن لغة عربية يمكن أن تساير إلى حد ما هذه التطورات مع الملاحظة أن اللغة الفرنسية في انحدار متواصل بالمقارنة مع الانجليزية التي أصبحت تسيطر على المجال المعلوماتي عموماً؟ أي ما هو أفق حضور العربية في المعلوميات؟
>> الذي لا يمكن تجاهله هو التغلب الشامل للغة الانجليزية، هذا لا طاقة لنا به، لاطاقة لنا في أن نغالب الانجليزية كما أنه لا طاقة للفرنسيين في مغالبتها، الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقوم به هو أن تكون النتائج التي يتوصل إليها ميدان المعلوميات بالعربية، لكن اللغة المستعملة عند المهندسين لا بأس أن تكون بالانجليزية أو غيرها، المهم النتيجة.
المهم ما نخططه من الأغراض والأهداف، أكثر ما يمكن فعله هو أن نعد العدة للمستقبل عندما سيظهر الكثير من المخترعين العرب والمسلمين المكتشفين لأسرار الكون، عندئذ تعلو العربية بعلوهم، اللغة ليس فيها أي عيب، العيب في أهلها. عندما يصبح للعرب والمسلمين حضارة سيأتي الأجانب لتعلمها كما كان الحال في عصور الازدهار الاسلامية. ففي مدينة بجاية بالجزائر مثلا في القرون الوسطى كان يأتي الأجانب لتعلم العربية حتى يتمكنوا من قراءة الكتب العلمية في الجبر والعلوم المختلفة مثل ريمون لول الفيلسوف والعالم الكبير الإسباني الذي قضى عمره في دراسة الرياضيات في بجاية. فلا نلوم اللغة وإنما نلوم أنفسنا والوضع الذي نحن عليه، الإنسان هو الثروة الحقيقية التي بها يمكن مواجهة التحديات التقنية والعلمية والحضارية عموماً.
< ننتقل إلى مجال المصطلح، إلى ما أسميتموه “المصطلح العلمي الضيق” و”المصطلح الحضاري” ما هو الفرق بينهما؟
>> المصطلح العلمي هو ما لا يعرفه إلا المختصون فيه، ولكن هناك مصطلح أضيق من هذا هو الفئة القليلة من المختصين الذين لا يعرف غيرهم هذا المصطلح مثل مصطلحات الصيدلة التي ربما حتى الطبيب لا يعرفها و كذلك المصطلح العلمي الذي يجب أن يعرفه كل مثقف مثل : الفزياء والكمياء العادية والرياضيات العادية..
اللفظ الحضاري شيء آخر، إنه اللفظ الذي يؤدي مفهوماً محدثاً في زماننا هذا. هناك الآلاف من المفاهيم الحديثة التي يجب أن يعرفها حتى الطفل الصغير، الذي عادة ما يكتفي بالكلمة الأجنبية المحرفة والمعربة ويقال إنه لا يوجد في القاموس لفظ لهذه الكلمة الأجنبية، وهذا طبعا عائق وعيب في الاستعمال اليومي للعربية لأن الناس -وخصوصا في المشرق- تعودوا على أن العامية لابد أن تؤدي ما عليها في الحياة اليومية، أما الفصحى فهي فقط لغة مشتركة بين الناس، لا يا سيدي، الفصحى لابد وأن تنزل إلى الميدان، ولهذا حتى النطق بها يجب أن يشبه العامية. ينبغي أن تعلم العربية الفصحى في مستوى ترتيلي ومستوى حَدْري، هذا اصطلاح القراء، الحدر هو أشبه شيء بالعامية من حيث الاختزال، من حيث الحذف والخفة، العربية المنطوقة اختزال للتي نزل بها القرآن إذا رتلت هي العربية التي يتعلمها الناس في المدرسة.
الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية
< توجد في بلدان المغرب العربي نخبة تكتب بالفرنسية ويصطلح على كتاباتها “الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية”؟
>> هو شيء واقع، ولكنه واقع ذاهب إلى الزوال لما ترجع العربية مكانتها كاملة، هذه الفئة من الناس ستنتقل إلى بلد آخر، فالكثير من هؤلاء يقيمون حالياً بفرنسا مثل الطاهر بن جلون ومحمد ديب عندنا، من الذي بقي منهم في الجزائر مثلا؟ قليل جداً، فحتى لو بقيت هذه الفئة من الناس فهي غريبة ولكن لا يليق بنا أن ننكر وجودها، إنهم كتاب ولهم مهارة ونبوغ.
< .. القصد من السؤال هو : ما هو المعيار في تصنيف الأدب : مضمونه أم اللغة التي كتب بها؟
>> الانسان الذي ينطق بلغة ما صباح مساء يكون من أهلها كما قلت، ومع ذلك فإن كثيرا من هؤلاء الكتاب يفكر كما يفكر أي مغربي لأنهم ولدوا وترعرعوا في وسط مغربي ولهذا أحياناً عندما يتكلمون ويكتبون تحس أنهم مغاربة، أو جزائريين أو.. ولهذا يمكن أن نقول : إنه أدب مغربي بلغة أجنبية.
< من خلال معرفتكم الأولية بمعهد الدراسات المصطلحية بفاس، ما هو تقييمكم الأولي لهذه التجربة؟
>> لا أستطيع أن أقول أي شيء عن هذا المعهد، لأنني لم أطلع بشكل مفصل على الأهداف والمحتويات. لقد أعطاني المسؤولون بعض المعلومات، لكنها قليلة جداً. وإن كنت من الآن أقول : إنه مبادرة جيدة جداً، لأن البحث في المصطلح هو مهم وخطير مثله مثل البحث في اللغة. ولابد للذين يخوضون في هذا الميدان من أن يكونوا ذوي علم وخبرة، لأن الحاكم إذا كان يتحكم في أمور ليس من أهلها فطبعاً ستكون البلبلة.