هذه أحكم آية في كتاب الله تعالى كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد فقه معناها، وأدرك مغزاها، وهي أبلغ موعظة لمن يتعظ، وأنفع تذكرة لمن يتذكر، آية صغيرة المبنى كبيرة المعنى، فهي على وجازة عبارتها، وقلة كلماتها قد دلت على جوهر الرسالة : اعمل ما شئت فإنك مجزي به! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها إنها آية فاذة جامعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >الخيل لثلاثة : لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر (ثم بين عليه السلام ذلك) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : >ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}< أخرجه البخاري.
إنها ميزان الصالحين، ونبراس المتقين، منخلالها عرفوا أنه لا يضيع في ميزان الله تعالى شيء من خير أو شر ولو مثقال ذرة! فكل أعمالك تحصى عليك مادق منها وما جل، وكل أقوالك تسجل عليك، ما كثر منها وما قل!
هذه الحقيقة أشار إليها كتاب الله تعالى في آيات وسور كثيرة، منها قوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وقوله جل شأنه : {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض ياتي بها الله، إن الله لطيف خبير}، وقوله عز من قائل : {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه، ويقولون ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا}، وقوله سبحانه : {يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد}.
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد ذلك ويبينه، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة< وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن -ظلف- شاة< وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق< وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم< وفي سنن الترمذي >لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا< وصدق الله {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يستهينون بالذنب مهما صغر، فهذا أنس بن مالك رضيالله عنه يخاطب التابعين فيقول : >إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات< وقد قال عليه الصلاة والسلام >إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أجمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه< أخرجه البخاري عن سهل بن سعد.
ولقد سجل لنا التاريخ مواقف إيمانية رائعة مع هذه الآية الكريمة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} أذكّر بها نفسي وإخواني في زمان أتى الناس فيه الموبقات، واقتحموا المحرمات، وانتهكوا الحرمات، وجهروا بالفواحش والمنكرات، وقل فينا من يلقي لعمله بالا، أو يعطي لأفعاله اهتماما!.
1) موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه : روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت : {إذا زلزت الأرض زلزالها..} وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ما يبكيك؟ قال : هذه السورة..<(1) و{فمن يعمل… }<آخر آية فيها.
2) موقف صعصعة بن معاوية : روى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فقال : حسبي، أن لا أسمع غيرها<، وفي رواية للثعلبي عن الحسن أنه قال : >لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها، حسبي، فقد انتهت الموعظة<(2).
3) موقف الحارث بن سويد : عن ابراهيم قال كان الرجل يأتي الحارث بن سويد فيشتمه فإذا فرغ قال الحارث{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} كفى هذا إحصاء<(3).
4) موقف شيبان الراعي : عن يسار قال : قرأ رجل على شيبان الراعي {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قال : فذهب على وجهه، فلم يُرَ سنة، فلما كان بعد الحول لقيه رجل فقال له : من أين؟ فقال من ذلك الحساب الدقيق {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}(4).
5) موقف رجل من المسلمين : روى معمر عن زيد بن أسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال >علمني مما علمك الله، فدفعه إلى رجل يعلمه، فعلمه {إذا زلزلت الأرض زلزالها -حتى إذا بلغ- فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قال : حسبي، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال :> دعوه فإنه قد فقه<.
امحمد العمراوي
——–
1- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني 667/6.
2- مختصر تفسير ابن كثير للصابوني والجامع لأحكام القرآن 153/26.
3- صفة الصفوة 32/2.
4- صفة الصفوة 507/2.
5- الجامع لأحكام القرآن 153/20.