تعج الساحة الفكرية العربية المعاصرة بمجموعة من القضايا، يطرحها مفكرون من مشارب مختلفة، كل من زاويته يحاول أن يقارب موضوعا من الموضوعات حسب تجنسه الإيديولوجي، ملتمسا الطريق الصحيح لبلوغ هدف النهوض وتحقيق التنمية.
لقد كان العالم العربي في منتصف الستينيات، وإلى حدود منتصف الثمانينات، ينظر إلى قضاياه متوسلا بنماذج نظرية مستعارة من مناخ ثقافي غير الذي يعيش داخله، وبالواضح، من أجل تشخيص للأمور. وحتى نكون أكثر إجرائية نقول: إن الفكر الماركسي قد هيمن بشكل قوي، خلال هذه الفترة، ومارس نوعا من الإغراء إلى الحد الذي ناله من التصنيم (Fétichisme) ما لم ينل فكرا غيره، فاعْتُبٍرَ السبيل الوحيد لنهضة العالم العربي وتحقيق العدالة بين كافة شرائحه الاجتماعية، واعتبرت هذه الرؤى أن الخيار الوحيد الذي ينبغي تبنيه هو الخيار الثوري، عبر القفز على السلطة واجتثاها من الداخل وإحلال أخرى بديلة (الدولة الاشتراكية) كمرحلة انتقالية قبل الوصول إلى المجتمع الشيوعي الذي تندثر فيه الطبقات ويستحيل فيه “الحكم للشعب”. ومما زاد من حماس مثقفينا اليساريين وتسارعهم إلى تبني هذا الخيار هو وجود نموذج قائم بذاته سلك نفس هذه الطريق، هو النموذج السوفياتي.
إلا أنه بعد انهيار هذا “الغول”، انهارت معه كافة الأبنية الإيديولوجية التي كان يستورد منها العالم العربي، الذي عاش مثقفوه حالة “استثناء إيديولوجي” استتبعه البحث عن نماذج ومفاهيم أخرى، للخروج من المأزق الذي وُضعوا فيه. وهكذا تم إحياء مفهوم المجتمع المدني كمفهوم مركزي داخل استراتيجية النضال الديمقراطي. كما وازى هذا الموقف التراجع عن مجموعة من المواقف المتطرفة التي كانت تنظر للدين باشمئزاز، وتعتبره المسؤول الأساسي عن تخلف الشعوب العربية ومستودعا للخرافة والوعي الزائف الذي يفصل الفرد عن واقعه الاجتماعي وما يعج به من مشاكل؛ وأخذ مثقفونا يعقدون “تصالحا” مع الدين باعتباره مكونا أساسيا في ثقافتنا العربية، بل والحصن الحصين الذي يمكن الاحتماء به في كل لحظة من لحظات الاختراف الثقافي.
في هذا الخضم من التحولات أعيد طرح إشكالية الهوية من خلال طرح سؤال من نحن؟ أـو ما هي العناصر التي يتحدد بها “الأنا” العربي؟ هذا الصنف من الأسئلة مراجعة الموقف من مجموعة من القضايا التي ظن البعض أنه وقع الحسم فيها، كما هو الشأن بالنسبة للدين وموقعه بداخل مجتمعاتنا العربية كما أسلفنا الذكر. وكمحاولة منها لتحديد الأجوبة عن هذه الأسئلة، تعددت المقاربات واختلفت بين داع إلى تحديد ماهية الهوية استنادا إلى عناصر لا تقبل التغير وتعلو على الخارج، ومن يدعو إلى اعتبار الهوية ذات مضمون نسبي تنتفي شروطه عبر تلاحق المراحلالتاريخية.
لقد اعتبرت المقاربة الأولى أن منظومة القيم الإسلامية والتشكلات الاجتماعية الناجمة عنها تشكل إطارا ينسخ ما دونه من المنظومات ويتجاوزها، وكأن الفرد بالتزامه الإسلام سيغير من نفسه جذريا وسيصبح فردا آخر بانقطاع عن صيرورته الحياتية التي تقوم فيها التنشئة الاجتماعية بوظيفة التثبيت لمجموعة من القيم منذ طفولته الأولى، قيم لا تجد لها نافيا في الدين. وهكذا، فالذات – حسب هذه المقاربة – يمكن تحديد ماهيتها، استنادا إلى عناصر لا تقبل التغير كما تشكلت مظاهرها في مرحلة التأسيس الأول للدعوة الإسلامية، تحدى الكفار ودعواهم للإثبات بالبرهان. إن هذا الطرح الذي يدَّعي لنفسه الدفاع عن الإسلام مدحوض من طرف الإسلام نفسه؛ فمنطق هذا الأخير قائم على استيعاب الثقافات المحلية دون نفيها فيما لا يتعارض مع ثوابت الدين كما أسلفنا الذكر، وإلا لما تأتى لهذا الدين أن ينتشر في مشارقالأرض ومغاربها.
في مقابل هذه المقاربة هناك أخرى اصطلحنا على تسميتها بالمقاربة التغريبية، التي لا تتمثل الهوية، بما هي مجموع العناصر التي تحدد “الأنا” العربي، إلا خارج الدين وقيمه الناظمة لسلوك الفرد داخل حركة التاريخ، وبذلك فالذات العربية – حسب هذه المقاربة – لا يمكن أن تحقق حضورها الفاعل إلا بالتماهي مع مكتسبات الحداثة التي تعتبرها هذه المقاربة قدر العالم الذي لا يمكن الانفلات من شراكه. وبهذا التصور تريد هذه المقاربة لذواتنا أن تصير أشباحا لغيرها، الشيء الذي لا يقبله العقل ولا ينسجم مع حقائق التاريخ. إن المنزلق الذي تقع فيه هذه المقاربة هو إغراقها في شرط التاريخية والدينامية، الشي الذي يجعلها تقع في شراك التغريب عندما تؤكد على عدم إجرائية التراث واعتباره مكبلا لكل خطوة تروم الانطلاق نحو فضاءات التحرر والحرية، والاندماج في عصر الحداثة الكاسحة.
إن ما نريد أن نؤكد عليه في هذا المقال هو التحرر من عقدة النقص التي تدفعنا إلى الهروب إلى الوراء ومقاومة كل جديد تحت غطاءات تدنيس الذات وفصلها عن جذورها، بنفس القوة التي ندعو بها إلى عدم الارتماء في المعسكر الآخر الداعي إلى فصل الذات عن محيطها الطبيعي الذي يلعب فيها التراث مكوِّنا أساسيا.
ذ. عبد النبي خي