عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : >لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يُعطاها، فقال : أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال : فأرسلوا إليه فأُتِي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي : يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ قال : أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حمر النّعَم<(متفق عليه ويقول صلى الله عليه وسلم : >من دلّ على خير فله أجر مثل فاعله<(رواه مسلم) مصابيح السنة4764.
المثالية هدف سام نسعى إلى الوصول إليه في أنفسنا وأسرنا، ومجتمعاتنا، ولا يمكن أن نصل بأسرنا إلى المثالية. ونحن لسنا مثاليين كما أننا لا يمكن أن نصل بمجتمعنا إلى المثالية التي نحلم بها ما لم تكن الأسرة المكونة لهذا المجتمع مثالية. لأن مثالية المجتمع ترجع إلى مثالية الأسرة، وأن مثالية الأسرة ترجع إلى مثالية الفرد فيها.
والمثالية التي نقصدها هنا هي مدى التزام الفرد منا بأوامر الله تبارك وتعالى، واجتناب نواهيه، لأن هذا بلاشك هو القاعدة الصلبة التي يمكن أن ينطلق منها أي فرد منا إلى أجواء السعادة والطمأنينة، والانتاج المُتقن للنفس والغير..
انظر إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه، أنفذ برفق ولين إلى دعوة الإسلام، وإخبارهم بما يجب عليهم، أَمَرَهُ بهذا مع شر خلق الله يهوديي خيبر، فما بال الدعاة مع أهل الاسلام والخطائين، ولكن السؤال هنا هو: هل يمكن أن يوجد ذلك الفرد الذي ننشده، أي لم يقترف إثما، ولم يجترح خطيئة، إن هذا أمر مستحيل طبعا، ومن ثَمَّ فإن المثالية المطلقة في الأفراد غير ممكنة. وإن كان كل فرد مطالب شرعا وعقلا أن يجاهد نفسه ويراقبها، ويحاول بقدر ما يستطيع أن يسير بها في طريق المثالية، ولو نِسْبِيّاً ومن ثَمَّ كان لزاما على الدعاة أن يدركوا أنه لَوْلا حَتْمِيَّة وُجُود الخطائين المذنبين لما كان هناك داع لوجودهم، وليس هذا عذراً للخطائين المذنبين، لأنهم بلا شك سيحاسَبُون ويُجزَوْن بأعمالهم إن كانت خيرا فخيرٌ، وإن شراً فشرٌّ، أقول ليس ذلك عذرا للخطائين بقدر ما هو تنبيه للدعاة، بأن الدعوة موجهة أصلا لهؤلاء الذين تهاووا من صراط المثالية، إلى مهاوي الخطيئة والذنوب، وهؤلاء هم الذين يحتاجون إلى الدعوة بمعناها المعروف الذي يوقف فيها الداعية عُمُرَه لله، ويحتسب ما يصيبه من نَصَبٍ ومعاناة وتعب ومشقة في سبيل الله، يرجو الثواب والأجر، ويأمل بمهمته النجاح والتوفيق أملا لا يكاد يتطرق إليه اليأس رغم كل ما يلقاه من دواعي اليأس والقنوط.
وبما أن الإنسان أهل الخطأ والذنب ومحلّه، فإن على الداعية أن لا تذهب نفسه على المذْنِب حسرات، بل عليه أن يبادر بالدعوة والإرشاد بالكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة واللين والرفق، والتحبب والتودد، والشفقة والرحمة، وصحبة الخير كالآخرين، وبذل نصيحة المشفق المخلص الذي لا يكَلُّ ولا يمَلُّ كما أن عليه أن يومن إيمانا عميقا مطلقا بأنه ليس عليه هداهم، وإنما عليه دعوتهم والهادي بَعْدُ، هو الله، فليس لمن هدى من مُضل، وليس لمن أضَلَّ من هاد، المُهم أن لا يستبطئ الهداية، ولا يستكثر الجهد والمشقة، ولا ينسى الصبر والملازمة.
أما من يقدم كلمته الطيبة، وجهده الخير فإذا به يجد كراهة الاستجابة، فينقلب رفقه قَسْوةً، ولينُه غلظة، وتودده جفاء، وشفقته كراهة. ويصبح يسخر من الناس، ويشهر بهم في المجالس، فإن هذا رجل فيه تسرّع وحُمق إذ لو لم يكن بين الناس وبين الهداية إلا دعوتهم لما بقي أحد من أقوام الرسل إلا آمن واهتدى، لأن الرسل أفضل الدعاة وأصدقهم، وأقدرهم وأكثرهم إخلاصا، وأحسنهم نية وقولا، فهم أجْدَرُ أن يستجاب لهم، ومع ذلك كفر الناس بهم وأوذوا.
ولهذا فالرجل الذي لا يت وفر على صبر الأنبياء والرسل لا يصلح أن يكون داعية أو منتسبا إلى الدعوة.
إن الدعوة إلى الله عبادة قبل كل شيء بل هي من أفضل العبادات وأجلها، ولا ينبغي لمومن أن يتبرم بعبادة يعلم أنه يثاب عليها، ولكننا في الوقت نفسه لا ندعو إلى محبة أهل الذنوب والآثام وتوليهم، وإنما ندعو إلى رحمتهم والإشفاق عليهم، ومحبة الهداية لهم، والانطلاق في دعوتهم من هذه المنطلقات كأنها أقرب للقلوب وأدنى إلى النفوس، أما الذين يعرفون الحق وينكرونه، ويحاربون اللهورسوله على علم ومعرفة، فأولئك المجاهرون بالعداوة لدين الله، فهؤلاء لاحب ولا كرامة لهم ولارحمة ولا شفقة عليهم، ولكنهم ولله الحمد في هذا المحيط المتلاطم من المسلمين في أنحاء المعمورة قلة قليلة نادرة جدا، وزَبَدٌ يطفو على السطح، يُرى ويَخْدَعُ ثم يذهب جُفَاء، فالكلام ليس عن هؤلاء، وإنما المقصود المسلمون الذي وقر حُبُّ الله وتعظيمه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب دينه في قلوبهم، ولكنهم يُقارفون ويجترحون يخلطون أعمالا حسنة وأعمالا سيئة عسى الله أن يغفر لنا ولهم، ويهدينا جميعا إلى طريق الفلاح.
يستفاد من الحديث :
1- الدعوة إلى الله عبادة وصدقة.
2- اتصاف الداعي باللين والرفق والصبر من الشروط الأساسية لنجاح الدعوة.
3- هداية رجل واحد خير من الدنيا وما فيها.
4- قدوتنا في الدعوة والصبر عليها نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاما في الدعوة {وما آمن معه إلا قليل}.
ذ. الحسين فليو