العلاقة بين الغرب والشرق قديمة تضرب بجذورها في عمق التاريخ. وهي العلاقة التي انبنت دوما في شكل ثنائيات ضدية لا يمكن التأكد من حقيقة أحد طرفيها إلا بالعودة إلى الظروف العامة التي كانت سببا في نشوئها. ومن أبرز هذه الثنائيات:
- علاقة منظمة = علاقة غير منظمة.
- علاقة مشبوهة = علاقة بـريئـة.
- علاقة قديمـة = علاقة جـديـدة.
- علاقة تـكامل = علاقة تنـافـر.
والملاحظ أن هذه العلاقة بين الغرب والشرق اتخذت دوما محورا أحادي الاتجاه؛ يكمن في أن الغرب هو في أكثر الأحوال الطالب والمبادر إلى ربط العلاقة بالشرق:
غـــرب ــــ شـــرق
ولم نجد عكس هذا الاتجاه إلا إبان فترة الفتح الإسلامي (بلاد الأندلس)؛ وقد حدث هذا في إطار الارتباط المنظم: السفارات، والرحلات، والهجرات.
كما تجدر الإشارة إلى أن اتصال الغرب بالشرق مر عبر مراحل مختلفة متباينة في شكلها وأهدافها والجهات المنظمة لها وطرق تنفيذها والنتائج القريبة أو البعيدة التي آلت إليها. ويمكن الوقوف في هذا الصدد عند ثلاث محطات كبرى باعتبار صورة الشرق في أعين الآخر/الغرب:
- مرحلة الشرق الساحـر العجيـب.
- مرحلة الشرق الـغـنـي.
- مرحلة الشرق المـخـيـف.
كما يمكن الوقوف عند ثلاث مراحل في الاتجاه المعاكس، وهي:
- مرحلة الغرب المستكشف المبـشـر.
- مرحلة الغرب الـطـامع المستعـمـر
- مرحلة الغرب الـخـائـف.
ويمكن القول إن هذه المرحلة الثالثة في صورتيها الدالة على الخوف والقلق والتمزق هي التي شكلت وما زالت تشكل هاجس الغرب القوي وموضع التفكير، كل مرة، في تجديد علاقته بالشرق. لذلك جاءت الرحلتان الأولى (الشرق الساحر العجيب) والثانية (الشرق الغني المطمع) تمهيدا لإحكام السيطرة على هذا الشرق وتدجينه؛ وإن لم يتحقق ذلك فالقضاء عليه، بغية الخلاص من الخوف والقلق الذي ظل يؤرقمضجع الغرب لحقب طويلة جدا. إن خوف الغرب اللامنطقي من الشرق قديم؛ وليس لهذا الخوف ما يبرره سوى حب السيطرة واستعباد الناس، بالإضافة إلى الخلاص من (خوف أو تهديد) لا وجود له بالمرة. ولنا في الحروب الصليبية، على تعاقب دوراتها، خير مثال لهذا الحقد والعداء الدفين للشرق. وما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية ومن حطب في حبلها من الدول الأوروبية وغير الأوروبية في مناطق متفرقة من هذا الشرق العظيم سوى دليل مواصلة حثيثة لما لم تنجح في تحقيقه الحروب الصليبية التي قامت أول ما قامت ضد الشرق وحضارة الشرق وديانات الشرق؛ وعلى رأسها الدين الإسلامي الحنيف. ولنا أن نتساءل بعد هذا ما موقع الاستشراق كفعل قيل دائما إنه (أكاديمي) ضمن هذه المراحل الثلاث التي تصور لنا اتصال الغرب بالشرق؟
موقع الاستشراق من هذه العلاقة:
هنا أيضا يمكن الانطلاق من مجموعة من الثنائيات الضدية أهمها: ثنائية (الحضور = الغياب)؛ أي حضور الفعل الاستشراقي وغيابه. فقد كان الفعل الاستشراقي في صورتيه: المنظم وغير المنظم حاضرا في المرحلتين الأولى والثانية: مرحلة الشرق الساحر العجيب ومرحلة الشرق الغني المطمع. وجاءت كل واحدة من هاتين المرحلتين مدججة بجمهور من المستشرقين، تباينت مواقفهم واختلفت ميادين اشتغالهم تبعا لنوعية الاستشراق المنضوين تحته، والجهات الممولة والمفكرة، بالإضافة إلى تاريخ المرحلة والدافع إليها والمقاصد التي سطرت لها.
وقد أدى الاستشراق بنوعيه المنظم وغير المنظم الخدمات التي كانت منتظرة منه، وعاد بالربح الكبير على الجهات التي كانت تمول أعماله وتسطر أفكاره: الدولة. وقد ظل هذا النوع من الاستشراق قائما لحقب طويلة، يستقرئ ويتعرف ويستكشف ويجس نبض الشرق: من شرق واسع شامل، إلى شرق أقصى، إلى شرق أوسط، إلى الشرق المسلم. بل إننا وجدنا طيلة وجود الفعل الاستشراقي تخصصات تظهر لتقسم هذا الشرق العظيم إلى أقسام دراسية: فمن المستشرقين من تخصص في الشرق الأقصى: الصين والهند وما جانسهما في الحضارة والتاريخ والدين، ومنهم من تخصص في الشرق العربي، ومنهم من طلب منه تركيز الاهتمام على الشرق المسلم بصرف النظر عن الرقعة الجغرافية، ومنهم من اختص في دول شرقية بعينها؛ كما هو الحال مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وكل هذا بغية الاستواء على هذا الشرق فهما وإغراء وقبضة. ثم وجدنا في مراحل متأخرة من عمر الاستشراق جماعة من الدارسين الأوروبيين والأمريكيين يرفضون – حين افتضحت خطط الاستشراق ونواياه – أن يدعون بالمستشرقين، فينعتون أنفسهم بالمستعربين؛ أي المتخصصين في قضايا الشعوب العربية أو الناطقة باللغة العربية. وفي كل هذا مزيد من الاختصاص والاقتراب من حياة العرب وطرق تفكير العرب.
وهكذا يقضي الفعل الاستشراقي في صورته القديمة نحبه، وكذلك الشأن بالنسبة للاستعراب الذي لم يستطع أن يعمر طويلا، بالإضافة إلى أنه لم يبلغ في استوائه وشهرته مبلغ الاستشراق. وقد أدت هذه المدارس الاستشراقية والاستعرابية خدمات كبيرة لأصحابها: (الدول والساسة)، ومكنتهم من مجموعة من مناطق النفوذ والمستعمرات والقواعد العسكرية. إلا أنها لم تستطع بخططها ووسائلها المحدودة وطرقها القديمة مسايرة التطور التكنولوجي السريع الذي عرفه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة بعد الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي وسقوط جدار برلين. بل إن الاستشراق، بالرغم من كل ما أداه من خدمات، لم يستطع تبليغ القائمين عليه الأهداف الشيطانية التي رسمها ساسة الحروب الصليبية وظلوا يحلمون جيلا بعد جيل بتحقيقها. فكان لابد من تغيير الاستراتيجية واستبدال الاستشراق الذي افتضحت نواياه بفعل جديد أو بمستشرقين جدد.
أدت إذن التطورات الأخيرة التي عرفها النصف الأخيرمن القرن الماضي على المستوى السياسي والتكنولوجي والاقتصادي إلى التفكير في قبر الاستشراق في صورته القديمة (المكشوفة) وتغييره بسياسة جديدة تواصل إحكام العلاقة بالشرق، كيفما كانت هذه العلاقة ودية أو قهرية. وهنا بالذات نكون قد غادرنا مرحلتي الشرق الساحر العجيب والشرق الغني المطمع على امتداد مساحاته وتعدد أقطاره وتباين حضاراته ودياناته، لندخل مرحلة الشرق المخيف المقوض فقط في البقاع التي تدين بالإسلام. ليس معنى هذا أن مرحلة الشرق المخيف لم تكن موجودة طيلة مراحل علاقة الغرب بالشرق، بل على العكس من ذلك فهي المرحلة المضمنة داخل كل اتصال بين الغرب والشرق. لكن الغرب لم يكشف عن نواياه الحاقدة ولم يصرح بهذا الخوف المزعوم إلا في الحقب الأخيرة. هذا وغيره كان من وراء إعلان إفلاس المؤسسة الاستشراقية في صورتها المعروفة وتعطيل عملها، ليتم تعويضها بما يمكن أن نسميه: (استشراق العولمة) أو (الاستشراق المعولم) الذي سيقوده هذه المرة جمهور آخر من المتخصصين. ليسوا هم الأساتذة والأركيولوجيون والأنثروبولوجيون، وليسوا هم رجال الكنيسة المزعومون، وليسوا هم التجار المزورون؛ إنهم رجال الإعلام والسياسة الذين تكونوا تكوينا خاصا داخل المدارس الغربية لمواصلة ما مهد له المستشرقون القدامى، وبالتالي تحقيق أهداف ظلت معلقة للحروب الصليبية.
من هنا تكون العولمة آخر مرحلة من مراحل الاتصال بين الغرب والشرق، أو لنقل هي المرحلة الفاشلة من مراحل إحكام قبضة الغرب على الشرق المنهوك من كثرة توالي الحملات وتكالب المجربين..
د. مصطفى سلاوي