مقدمة في الواقع الحالي للاهتمامات المصطلحية
المصطلح عنوان المفهوم، والمفهوم أساس الرؤية، والرؤية نظّارة الإبصار التي تريك الأشياء كما هي؛ بأحجامها وأشكالها وألوانها الطبيعية، أو تريكها على غير ما هي: مصغَّرة أو مكبَّرة، محدَّبة أو مقعَّرة، مشوهة النسق والخلقة، أو ملونة بألوان كالحمرة والزرقة. وما عهد قراءة الغرب بعينيه لتراثنا ببعيد. وما أثر نظارتيه الزرقاء والحمراء فينا بخفي.
ولقد كان مدار وحي الرحمن جل وعلا، مُذْ آدم حتى محمد عليهما الصلاة والسلام، على حفظ مصطلح الذكر من أن يصيب مفهومه تغيير أو تبديل؛ فتفسد الرؤية، ويقع الإفساد في الأرض {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}(الحجر: 9). والتطابق بين الكتاب وأم الكتاب في الملأ الأعلى تام {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}(الزخرف:4) والتطابق بين الكتاب، ودين الله، وفطرة الله، وخلق الله، في الكون تام {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}(الروم: 30) ومن غيّر فقد أفسد {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحـها}(الأعراف 56 و86).
وإنما مدار عمل الشيطان وحزبه، مذ إبليس إلى قيام الساعة، على محاولة تغيير المفهوم وتبديل المصطلح، أي تغيير الدين، والفطرة، والخلق.{ولآمرنهم فليغيرن خلق الله}(النساء: 119)، وفي الحديث القدسي : >خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم..< (أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار).
وما الجهود التي بذلها المستكبرون في الأرض، المعبِّدون الناس للطاغوت، قديما وحديثا، إلا صور من تلك المحاولات لتغيير المفهوم وتبديل المصطلح. وهذا فرعون ومومن آل فرعون في القديم، يتنازعان مفهوم مصطلح “سبيل الرشاد” {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر: 29)، {وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد}(غافر: 38). وها هو اليوم مصطلح شريف كالجهاد، يغير مفهومه المتكبرون في الأرض، ويبدلون مصطلحه ليصير إرهابا، بعد أن غيروا مفهوم الإرهاب ليصير فعلا بعد أن كان حالا، ومكروها بعد أن كان مطلوبا. وكذلك الأمر في أغلب المصطلحات التي تقوم عليها الحياة؛ كالخير والشر، والعدل والظلم، والحق والباطل، والسلام والإجرام،.. غيّر مفاهيمها العالون في الأرض أصحاب الأهواء، ولووا أعناقها كما لوى فرعون عنق مفهوم الفساد، وهو يقول عن موسى عليه الصلاة والسلام {إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الارض الفساد}(غافر: 26).
وكأني بجميع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين في المنطق الإبليسي مفسدون، وكأني بهم في المصطلحالإبليسي المعاصر إرهابيون.
ألا ما أحوج الأسماء كلها التي عُلِّمها أبونا آدم عليه الصلاة والسلام إلى من يصونها ويحميها؛ بحراسة مفهومها، وصيانة استعمالها وتنزيلها.
وألا ما أحوج الأرض اليوم إلى من يقيم فيها مصطلح الذكر كما أنزل، لتستدير من جديد كهيأتها يوم خلق الله السماوات والأرض، ويقام الميزان والوزن بالقسط، فيقال للحق حق، وللباطل باطل.
ألا إن شأن المصطلح العام لعظيم، وتغييره أو تبديله مما يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم، ومسه بسوء مس بالنظام العام للكون والحياة والإنسان.
ولذلك ينبغي النظر إلى واقع الاهتمام المصطلحي في الأمة اليوم من هذا الموقع، ولذلك قيل عن ذلك في نظرة سابقة في المصطلح والمنهج ما نصه:
“الاهتمام بالمسألة المصطلحية اليوم حيثما كان، في أمتنا، قد ولى وجهه كلية، أو كاد، شطر المصطلح الوافد، لا تشذ -أو لا تكاد تشذ- عن ذلك مؤسسة أو فرد، من مجامع إلى جامعات، ومن معاهد إلى لجن ومنظمات، كلها تتسابق، بتنسيق أو بدون تنسيق، متنافسة في تلقي المصطلح الوافد.
ومن رجالها من يستقبله استقبال الفاتح المنقذ؛ بقلبه وقالبه، معنى ومبنى.
ومن رجالها من يُلبسه الزّي العربي كيفما كان؛ لاعتبارات شتى، دون أي مس لمفهومه.
ومن رجالها -وهم القلة النادرة- من يقفونه في حدود الأمة الحضارية للسؤال، والتثبت من الهوية، وحسن النية، ودرجة النفع، وقد يتعقبونه في مختلف المجالات والتخصصات التي قد يكون عشش فيها، أو باض وفرخ بغير حق”. (أخبار المصطلح ع: 2، شعبان 1416هـ يناير 1996م).
أما الاهتمام بمصطلح الذات الذي هو خزان الممتلكات، والذي يجب أن يكون على رأس الأولويات، فلا يكاد للأسف يحظى بأدنى التفات. وذلك وحده دليل على أن الأمة لماّ تقدر أمر المصطلح قدره، ولما تفقه طبيعة الإشكال المصطلحي، ولما تتصور المسألة المصطلحية التصور المطلوب.
مفهوم المسألة المصطلحية :
الذي يتبادر إلى الذهن أولا، هو هذا الهم المصطحي الذي حُمّله مكتب تنسيق التعريب في العالم العربي، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)، التابعة لجامعة الدول العربية، وما يُنسق، أو يُفترض أن ينسق، بينه من مجامع لغوية، ومعاهد ومؤسسات، ولجن عليا أو دنيا للترجمة والتعريب.
والمفهوم الذي يستخلص من هذا الهم للمسألة المصطلحية ببساطة هو أنها: قضية الترجمة والتعريب للمصطحات الأجنبية اليوم في العالم العربي.
فالمصطلح الذي هو في البؤرة هو المصطلح الأجنبي، أي مصطلح غير الذات، الذي دخل حديثا، أو يريد الدخول إلى الذات، بسبب الاستعمار وما لحقه من موجات التحديث والعصرنة والتقدم والتنمية…
والإشكال الذي يعالَج هو إشكال التعريب للتعليم والإدارة وما يتصل بهما من علوم أجنبية، أو يلحق بهما من بقية مجالات الحياة العامة المتأثرة بالاستعمار، وما لحقه من موجات.
والتصور الذي يقف خلف ذلك كله، هو أن الشرط الأساسي لنهضتنا عرباً وتسريعها، هو استيعاب ما لدى الغير من جديد بالعربية.
وهذا المفهوم -على وجاهته- عليه مآخذ، أهمها:
1- أنه يترك مساحات شاسعة من المسألة المصطلحية خارج الاعتبار، بل يترك الأهم والأولى بأن يكون هو الهمّ المقدم، وهو مصطلحات الذات؛ إذ على أساسها، وفي ضوء مفاهيمها، والرؤية الحاصلة منها، يجب استيعاب ما لدى الغير، واستقبال مصطلحات غير الذات.
2- أن الإشكال فيه جزئي، يقتصر على ما تعانيه الأمة في جعل ما تغرَّب لفظا معرّبا، ويهمل ما هو أدهى من ذلك وأمر؛ وهو ما تعانيه الأمة من أمر المصطلح الأصل، الذي به قامت، وعليه قامت، وله قامت. المصطلح الذي به كانت الأمة الوسط بين الناس، وبه كانت خير أمة أخرجت للناس، وبه كان رجالها شهداء على الناس: مصطلح القرآن والسنة البيان، إذ هي لا تفهمه اليوم حق الفهم، ولا تقوم به أو عليه أو له، ولا تقيمه كما أمرت، صدقا وعدلا كما ينبغي له.
ومثل ذلك يقال عما تعانيه من أمر المصطلح الفرع، الذي يمثل خلاصة تفاعلها مع التاريخ وفي التاريخ. المصطلح الذي يمثل كسبها وإسهامها الحضاري في مختلف المجالات: مصطلح العلوم والفنون والصناعات؛ لا تعلمه هو كذلك حق العلم، ولا تقوِّمه حق التقويم، ولا توظفه حق التوظيف.
3- أن التصور الذي يقف خلق هذا المفهوم لا يمثل حقيقة أولويات شروط النهضة؛ إذ قد يقع التعريب الكامل ولا تنتج عنه النهضة المطلوبة. وما مثال بعض الدول العربية التي عربت حياتها كلها منذ عشرات السنين عنا ببعيد.
ذلكم ما يتبادر إلى الذهن أولا، وذلكم ما يستخلص منه، بما له وما عليه، وليس هو المفهوم المراد من المسألة المصطلحية. فما المفهوم المراد؟
لقد قيل في نظرات سابقة ما نصه :
“المسألة المصطلحية في هذه النظرات، ليست هي تعريف اللفظ المصطلح، ولا وضع المصطلح المقابل لمصطلح، ولا اقتراح مصطلح جديد لمفهوم جديد ازدان به فرش عالم المصطلح. وكل ذلك من البحث في المصطلح.
والمسألة المصطلحية في هذه النظرات، ليست هي أيضا تعريف علم المصطلح، ولا البحث في قضايا علم المصطلح، ولا دراسة مصطلحات علم المصطلح. وكل ذلك أيضا من صميم البحث في المصطلح.
إنما المسألة المصطلحية في هذه النظرات، هي تلكم المسألة التي تستلزم كل ذلك، وتوظف كل ذلك وغير ذلك، مما له صلة بذلك، في تعريف الذات الحضارية المستعملة للمصطلح: ماذا كانت؟ وماذا هي الآن؟ وماذا ينبغي أن تكون؟ إنها المسألة المصطلحية الحضارية بالمفهوم الشامل، لا بالمفهوم العلمي الخاص أو الأخص. إنها المسألة التي تبحث مصطلح الماضي، بهدف الفهم الصحيح، فالتقويم الصحيح، فالتوظيف الصحيح. وتدرس مصطلح الحاضر بهدف الاستيعاب العميق، فالتواصل الدقيق، فالتوحد على أقوم طريق. وتستشرف آفاق مصطلح المستقبل، بهدف الإبداع العلمي الرصين، والاستقلال المفهومي المكين، والتفوق الحضاري المبين”. (نظرات في المسألة المصطلحية ص: 3).
ومن هذا النص يستفاد:
1- سعة المفهوم، حتى لا يخرج منه أي اهتمام من اهتمامات المصطلح، أو همّ من همومه؛ سواء تعلق بأصل الذات، أو بالنابت من الذات، أو بالوافد على الذات.
2- كلية الإشكال الذي يعالجه وعمقه وخطورته؛ لأنه “يتعلق ماضيا بفهم الذات، وحاضرا بخطاب الذات، ومستقبلا ببناء الذات”. (من كلمة افتتاح “ندوة المصطلح النقدي وعلاقته بمختلف العلوم” مجلة كلية الآداب بفاس عدد خاص (4)، 1409هـ، ص: 12).
3- شمولية التصور الذي يقف خلفه وحضاريته؛ لمسه الأبعاد والجوانب كلها في الأمة، واستهدافه توظيفها جميعها في نقل الأمة من الواقع المهين، إلى الموقع المكين بالأفق المبين.
أبعاد المسألة المصطلحية :
للمسألة المصطلحية في التصور الحضاري الشامل أبعاد ثلاثة متكاملة: بعد الماضي وبُعْدُ الحاضر وبُعْدُ المستقبل:
1- علاقة المسألة المصطلحية بماضي الذات:
“وهي علاقة الفهم فالتقويم فالتوظيف، وضرورة ذلك بينة لذي عينين؛ لأسباب أهمها:
أن تراثنا هو ذاتنا؛ إذ المستقبل غيب، والحاضر علميا لا وجود له، فلم يبق إلا الماضي الذي هو مستودع الذات وخزّان الممتلكات، بما لها وما عليها من ملحوظات وملاحظات. فكيف نعرف إذن الذات إذا لم نفقه التراث؟
أن مفتاح التراث هو المصطلحات، وإنما توتى البيوت من أبوابها، وأبواب كل علم مصطلحاته، بل إنها خلاصة البحث فيه في كل عصر ومصر؛ ببدايتها يبدأ الوجود العلني للعلم، وفي تطورها يتلخص تطور العلم.
أن مفتاح المفتاح هو الدراسة المصطلحية للمصطلحات؛ ذلك بأنها تُعرّف غير المعرّف، وهو الأغلب، وتدقّق تعريف ما عرف فلم يعرف، وهو الأقل، وتصحح أخطاء أصحاب النظارات الملوّنة، أو الذين يدرسون التراث بالطائرة، أو الذين لا يقوم منهجهم على الإحصاء، فتند عنهم أشياء وأشياء..
لكن تلك الضرورة لا تلبَّى بأسرع ما يمكن، ولا بأضبط ما يمكن، إلا إذا قام منهج الدراسة المصطلحية على ثلاث دعائم:
أولا: العلمية؛ وأساسها الإحصاء، فالدراسة المعجمية، فالنصية، فالمفهومية، على نمط خاص يكفل الوصول إلىنتائج يمكن علميا أن يطمأن إليها، ولا تكون من قبيل رأي ربيعة بن حذار في شعر الزبرقان بن بدر أنه: “كلحم أسخن، لا هو أُنْضج فأُكل، ولا هو تُرك نَيّئا فينتفع به”. (الموشح للرزباني ص: 107)
ثانيا: المنهجية؛ وأساسها تقديم الدراسة الوصفية بشروطها على الدراسة التاريخية بشروطها، حين يحين أوانها.
ثالثا: التكاملية؛ وأساسها التنسيق؛ حتى لا يركب الباحثون بعضهم بعضا، ولأجل ذلك أسس معهد الدراسات المصطلحية… لو يجد على همه ظهيرا، فيقدر على إيصال الغذاء إلى كل الأنحاء”. (نظرات في المسألة المصطلحية ص: 3-4).
2- علاقة المسألة المصطلحية بحاضر الذات:
وهي كما تقدم علاقة الاستيعاب، فالتواصل، فالتوحّد، ودون ذلك -كما يقال- خرط القتاد؛ إذ الانصراف شبه تام عن الاستيعاب لمصطلحات التراث، والانصراف شبه تام إلى استقبال مصطلحات غير الذات، والعجز شبه تام عن التواصل الدقيق بين أجزاء الذات، والعجز شبه تام عن إنتاج الخطاب الموحَّد الموحّد للذات، والعجز شبه تام أيضا عن استيعاب ما يجري في الذات أو خارج الذات.
ومن أهم أسباب ذلك، مما ذكره الذاكرون أو غفل عن ذكره الغافلون:
1- انعدام الإدراك الشامل للمسألة المصطلحية بأبعادها الحضارية، أو شبه الانعدام.
2- تعدد مصادر الوضع المصطلحي.
3- انفصال مصادر الوضع وجهة التنسيق، عن جهات القرار والتنسيق. (نظرات في المسألة المصطلحية، ص: 5- 6).
3- علاقة المسألة المصطلحية بمستقبل الذات:
وهي كما تقدم أيضا استشراف آفاق مصطلح المستقبل، وتتلخصفي ثلاث:
1- ضرورة الإبداع المصطلحي لبناء ذات المستقبل أو مستقبل الذات. ولا إبداع مصطلحي بغير الإبداع العلمي، وإنما يُسَمِّي مَنْ وَلَد، ولا ولادة طبيعية بغير أبويين: اللغة الأم، والتراث الأب، ومن شذ شذ في الضياع، وإنما يأكل ذئب التاريخ من اجتهادات الأمم القاصية.
2- ضرورة الاستقلال المصطلحي لحوار الذات لغير الذات. ولا استقلال للمصطلح بغير استقلال مفهومه، وإنما يُحَاوَر من له اعتبار، ولا اعتبار للنُّسخ إلا بمقدار شدة مطابقتها للأصل.
ولذلك لابد من التأكد من النَّسَب في تدوين المصطلح في سجل مصطلحات العرب.
3- ضرورة التفوق المصطلحي كيفا وكما، لشهود الذات على غير الذات. ولا تفوق للمصطلح بغير تفوق أهله. وإن السماء لا تمطر تفوقا ولا إمامة.. بل لابد من السبق في عالم الأسباب، وإتيان البيوت من الأبواب، وإلا رغمت أنوف العرب، – ومن في حكمهم – في التراب حتى يراجعوا الحساب”. (نظرات في المسألة المصطلحية ص: 6-7).
مجالات الدراسة المصطلحية:
المجال المألوف في التصور العادي المعروف للمسألة المصطلحية، هو مجال العلوم المادية، وأقصى امتداد له ينتهي عند نهاية مجال العلوم الإنسانية. لأنهما -بهذا الترتيب- مظنة الحضور الطبيعي للمصطلح الوافد الذي هو في البؤرة.
أما في التصور الحضاري الشامل للمسألة المصطلحية فإن المجالات تصير ثلاثة، وبهذا الترتيب المخالف للمألوف!: مجال الشرع وعلومه، ثم مجال الإنسان وعلومه، ثم مجال المادة وعلومها.
فأما مجال الشرع وعلومه، فهو رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ومصطلحه المصطلح الشريف، وأشرفه مصطلح القرآن، ثم مصطلح السنة البيان، ثم مصطلح العلوم المستنبطة منهما والخادمة لهما. وعلى قدر حاجة الأمة إلى تجديد التدين، تكون حاجة المصطلح في هذا المجال إلى تجديد الفهم والتبيُّن. و”لئن كان في الأفق منهج يلوح وكأن به بعضا من خصائص عصا موسى عليه الصلاة والسلام في إبطال السحر وإحقاق الحق في الفهم، فهو منهج الدراسة المصطلحية؛ ذلك بأنه يتصدى أساسا لضبط المفاهيم المكونة لأي نسق، والدين في جانبه المعنوي التصوري نسق من المفاهيم، أصلها في كتاب الله عز وجل، وبيانها في بيانه السنة. من تمكن من تلك المفاهيم، ومن نسقها العام، تمكن من الصورة الصحيحة لهذا الدين، ومن تشوّه لديه شيء منها أو منه، تشوهت لديه الصورة العامة لهذا الدين”. (أخبار المصطلح ع: 4، رمضان 1418هـ يناير 1998م).
وأما مجال الإنسان وعلومه، فحاجة المصطلح فيه إلى الجمارك الحضارية شديدة، لغلبة المصطلح الوافد على مساحات كبيرة منه؛ ذلك بأن البحث في هذا المجال “قائم الآن برؤية الآخر ومنهاج الآخر؛ قائم على الانطلاق من مفهوم مادي للإنسان، ورسالة مادية للإنسان، وعلاقات ونشاط مادي للإنسان، ومن ثم لا يمكن أن يُدرس إلا بمنهج مادي، ولا يُتصور له إلا تاريخ ومستقبل مادي…
إنه في النظر القديم حيوان ناطق، وما هو بحيوان، ولكنه إنسان.
وإنه في النظر الحديث ابن قرد، وما هو بابن قرد، ولكنه ابن آدم عليه السلام.
وإن مفرق الطريق هو هذا المنطلق؛ فشتان بين من يدرس نفس الإنسان، ومجتمع الإنسان، وتاريخ الإنسان… على أنه حيوان من الحيوان (كان ابن قرد أو لم يكن ابن قرد) ومن يدرس نفس الإنسان، ومجتمع الإنسان، وتاريخ الإنسان… على أنه إنسان، هو ابن آدم النبي عليه الصلاة والسلام؛ له خصوصية الخلق، وخصوصية الوظيفة، وخصوصية التكريم والتفضيل، وخصوصية العلم والعبادة، وخصوصية النفس والمجتمع والتاريخ والمصير…
وإن الأمة المرشحة لإنصاف الإنسان، هي هذه الأمة التي أُنزل إليها الكتاب والميزان، وأمرت بإقامة الوزن بالقسط وعدم إخسار الميزان، وبهذه القوَّامية بالقسط كانت وتكون لها الشهادة على الناس، وبها يجب أن يتم على يدها إنصافالبشرية، بإعادة الآدمية المسلوبة للعلوم الإنسانية كلها؛ فيصير علم النفس، علم نفس الإنسان لا الحيوان، ويصير علم الاجتماع، علم اجتماع الإنسان لا الحيوان… وهكذا في مختلف المجالات والتخصصات. وعندئذ تفرح البشرية بعودة آدميتها، إليها وتخسأ القردة والخنازير وعبد الطاغوت”. (مجلة الهدى، ع: 33، ص: 35).
وأما مجال المادة وعلومها فهو مجال السيادة للمصطلح الوافد؛ ويقصد به المجال الذي اتخذ المادة موضوعا له “كانت صلبة أو سائلة أو غازية، كعلوم الفزياء والكمياء، وعلوم طبقات الأرض وأجواز الفضاء، وعلوم الهندسة والصيدلة… وغير ذلك. (مجلة الهدى ع: 33 ص: 35).
وهو هو المجال الذي انصرف إليه جل الاهتمام كما تقدم، لكنه ما زال بعيدا عن أن يتم في مصطلحه الحسم، لأسباب كثيرة تقدمت في علاقة المسألة المصطلحية بحاضر الذات.
ولا شك أن قدرا ما -وإن قلَّ- من مصطلح هذا المجال سيكون متأثرا بالتوجه الحالي لعلوم المجال “وهي مسخرة الآن للإنسان الحيوان..، بميزانه يصرفها كيف يشاء، وبميزانه حسب مفهومه للنفع والضر، ينفع بها من يشاء ويضر بها من يشاء، ويبني بها ما يشاء ويهدم بها ما يشاء؛ لا حرج عليه أن تُحرق آلاف الأطنان من الحبوب، ولو مات آلاف البشر جوعا في الجنوب، من أجل أن تستقر الأسعار..، ولا حرج عليه أن ينفق كثيرا من الأموال والطاقات والأوقات، من أجل أن يكون قادرا على تدمير أكبر قدر من الكائنات في أسرع الأوقات!!!
يا لعظمة الإنسان الحيوان! بل يا لعظمة الحيوان المتخفي في صورة إنسان!!..ألم يان لهذه الأمة أن تصنع أئمة العلوم لتحدد وظيفة العلوم: كل العلوم، فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟ وتحمي العلوم من سلطة السحرة والكهان والمُخْلدين إلى الأرض…
ويومئذ تفرح البشرية بانتصار “ابن آدم” على “ابن القرد”، وبانتصار الصلاح على الفساد في وراثة الأرض، وباستدارة الزمان، -ومنه زمان العلم- كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض؛ فتكون السيادة في الأرض للعلم، وتكون الإمامة في الأرض لأهل العلم، و{إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر 28).” (مجلة الهدى ع: 33، ص: 35- 36).
بقلم : د. الشاهد البوشيخي