آيات ومواقف : {ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا}


قال تعالى : {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند ربك للمتقين}(الزخرف).

تحمل هذه الآية الكريمة بين ثناياها -من بين ما تحمل من إشارات- علامة فارقة بين أهل الكفر وأهل الإيمان، تتلخص في أن أهل الكفر يعيشون للدنيا، وللدنيا فقط، أعظم أهدافهم وأسمى غاياتهم أن يتمتعوا بزينتها، ويستمتعوا بملذاتها وشهواتها، إنهم {يتمتعون وياكلون كما تاكل الأنعام} وحسب، لا يومنون ببعث، ولا يوقنون بثواب أو عقاب وذلك واضح في شطر الآية الأول {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة.. وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا}.

أما أهل الإيمان فإنهم يعيشون للآخرة، ويسخرون دنياهم لخدمة آخرتهم، لأنها الحياة الحقيقية {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون}(العنكبوت) وإلى ذلك يشير آخر الآية الكريمة : {والآخرة عند ربك للمتقين}.

لقد جاء كتاب الله تعالى مبينا للناس علامة المؤمنين المتقين، وحضهم على إيثار الآخرة والعيش لها، لأن في ذلك منجاتهم قال تعالى : {بل توثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى}(الأعلى) وقال لنبيه عليه السلام {وللآخرة خير لك من الأولى}(الضحى) وحذر في المقابل من إيثار الدنيا على الآخرة معتبرا ذلك طغيانا يستحق صاحبه نار جهنم فقال {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}(عبس) ولقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم صريحة عالية، حين دخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوجده متكئا على حصير قد أثر في جنبه، فبكى، لما رأى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شظف العيش ولما يعرف عن ملوك الفرس والروم من بذخ في الحياة، قال له عليه السلام في جملة قصيرة ذات مغزى عميق >أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة<.

لكن كثيرا من المسلمين غفلوا عن هذه الحقيقة، وأصبحوا يعيشون للدنيا، يبنون الدور الفاخرة، ويشيدون القصور الباهرة، يتنافسون في زخرفتها، ويتسابقون في تزيينها وتجميلها بأموال طائلة كأنهم فيها خالدون، وكأنهم منها لا يخرجون! ياكلون من كل مالذ وطاب، ويلبسون أفخر الثياب، ويركبون أفخم المراكب.. فليت شعري ماذا يقولون لربهم حين يسألهم عن البطون الجائعة، والأجساد العارية، والأيدي الممدودة؟ ماذا يقولون عن رجل لا يجد بيتا يأويه؟ وآخر لا يجد ثمن حبة دواء لعلاج مرض ألم به؟ ماذا يقولون عن مسجد لم يجد غنيا يبنيه؟ وطالب علم لم يجد رجلا يأويه…؟

لقد وضع في هذا الخطإ الشنيع الأمير الناصر حين بنى مدينة الزهراء، فأبدع فيها البناء أيما إبداع، وأحسن فيها الصانع وأجاد، حتى صارت عروس الأندلس بحق، وافتخر الناصر بهذا الإنجاز العظيم! ولكن كان لمنذر بن سعيد الفقيه القاضي رأي آخر.

قال ابن عوف : من أخباره (أي منذر بن سعيد) أن أمير المؤمنين عمل على بعض سطوح الزهراء قبة بالذهب والفضة وجلس فيها، ودخل الأعيان، فجاء منذر بن سعيد، فقال له الخليفة -كما قال لمن قبله- هل رأيت أو سمعت أن أحدا من الخلفاء قبلي فعل مثل هذا؟ فأقبلت دموع القاضي تتحدر، ثم قال : والله ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ، أن أنزلك منازل الكفار! قال : لم؟ فقال : قال الله عز وجل : {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} فنكس الناصر رأسه طويلا، ثم قال : جزاك الله عنا خيرا وعن المسلمين، الذي قلت هو الحق وأمر بنقض سقف القبة<(سير أعلام النبلاء 202/12).

امحمد العمراوي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>