عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: >اشترى رجل من رجل عقارا، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض ولم أشتر الذهب. وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها. فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما نعم، وقال الآخر لي جارية. قال أنكحا الغلام الجارية وأنفقا على أنفسهما منه فانصرفا<(رواه الشيخان).
شرح الحديث :
إن مهمتنا من إيراد هذا الحديث شيئان.
أولا : ورع البائع والمشتري وزهدهما في شئ لايعلمان حكم الله فيه. وإن كلا منهما يرى الحق لصاحبه في شئ لم يدفع ثمنه. ولا ملك له عليه.
وثانيا عدل الحاكم في حكمه، وأنه عرف الحق فقضى به. فأصلح بين المتحاكمين، والصلح خير. قال : القضاة ثلاثة: قاض في الجنة. عرف الحقوحكم به، وقاضيان في النار: احدهما عرف الحق فحكم بغيره، والآخر جاهل لايعرف الحق ولايستطيع القضاء به، فهما في النار. وعذابهما سواء.
وما ذكر النبي هذا الحديث الذي لم يسأله أحد من أصحابه عنه، إلا للتخلق بمثل تلك الأخلاق الفاضلة في المشتري الذي وجد الجرة مملوءة ذهبا في عقاره، فخاف الله من أخذها، ورأى أنه لم يدفع ثمنها، فكيف يجوز له الاستيلاء عليها، مع ان الذي فيها قد يكون أكثر مما دفع من الثمن بأضعاف مضاعفة. وفي البائع الذي علم من نفسه أنه لم يدفن تلك الجرة، وأنه لاعلم له بها، وقد باع
وما فيها، فكيف يجوز له الرجوع في شئ منها، وقد قصَّر حظه عن تحصيل ذلك المغنم العظيم، وأنه رأى فضل ربه على صاحبه، وما انعم به عليه. فطابت له به نفسه، وهنأه بما وجد في هذا العقار.
انظروا إلى هاته النفس العظيمة القانعة الزاهدة الخالية من الحسد والكراهية، اللهم زَكِّ نفوسنا أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. وكذلك الحاكم الذي حكم بينهما بخير حل وأعدل قضاء. من غير محاباة ولا استعلاء أو تحيز.
فليتنا نتعامل بالصدق، وليتنا نحفظ الأمانة، وليتنا نحرص على الشرف، وحسن السمعة، وليتنا يتورع احدنا عن حق غيره إلا بحكم لله. فتحصل الثقة، وتحل البركة، ويخف الطمع، ونسعد في ديننا بامتثال أمر ربنا، ونفوز بالدنيا بكسب الحلال، وثقة الغير بنا، نأخذ مُؤتمَنين، وندفع آمنين. وبذلك تكثر اموالنا، وتتضاعف أرباحنا، ونكون عند الله أبراراً وعند الناس أخيارا. وياليتنا اتقينا الله في معاملتنا مع غيرنا، وياليت تجارنا خافوا الله، وعاملوا الناس بالصدق والأمانة، وبينوا للمشتري عيوب السلع، وياليت الحكام اتصفوا بالورع وحكموا على الناس بالعدل، وياليت الناس اتصفوا بالصدق حتى يصدق علينا قول ربنا: { أولئك الذين يُتَقَبَّلُ عَنْهُم أحسنُ ما عَمِلوا ويُتَجَاوَزُ عن سيئاتِهم في أصْحَاب الجَنَّة وَعْدَ الصدق الذي كانوا يوعدون}(سورة الأحقاف).
إننا قد أصبحنا نعظم الدنيا ونقدرها فوق ما تستحق، ولانبالي بجمعها كيف ما كان الجمع، ولو توقف عليه ذهاب الدين والمروءة والأخلاق. وما الفرق بين المسلمين إذا قدسوا الدنيا، وفقدوا التقوى، وبين من وصفهم الله بالخيانة من أهل الكتاب، المستحلين لما حرم الله بالحيل
والدعاوي الباطلة، >سَمّاعون للكذب أكّالون للسُّحْت<(المائدة : 44).
إذن من كانت له مزرعة أو بستان فليتق الله فيهما، ولا يمنع حق الله منهما، يؤدي زكاتها، ويطعم منها المحتاجين.
من كانت له تجارة فليتعهدها بالصدق والأمانة حتى يبارك الله فيها. وما نزول المصائب والكوارث إلا بمخالفة حكم الله، فيما نملك، وفساد أخلاقنا ومعاملاتنا.
قال تعالى:{فلما آسَفُونا انتقمْنَا منهم فأغْرَقناهم أجمعين فجعلناهم سَلَفًا ومَثَلاً للآخرين}(الزخرف : 65).
وآسفونا: أغضبونا
اللهم اجعلنا من أهل الخير، واكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. آمين
ذ. الحسين فلييو