قد يكون العنوان الذي اخترناه لمقالنا المتواضع هذا صادِماً للعواطف، ومعاكسا لما تردّده الألسن والأقلام، من أن شارون سفاح ومجرم حرب وإرهابي و… وغيرها من النعوت التي لا تستقيم، والرؤية الموضوعية لطبيعة وخصائص الدائرة العقدية و(الحضارية) التي ينتمي إليها هذا النموذج البشري، ولا تنسجم وتتفق والسنن الاجتماعية التي أودعها الحق سبحانه في العالمين بصفة عامة وفي أمة الشهادة على الناس بصفة خاصة.
فشارون ينتمي إلى عقيدة من مقوماتها الإيمانية، محاربة الحق وأهله، ابتداء بالأنبياء والرسل وانتهاء بأتباعهم والمؤمنين بدعواتهم. ودرجات الإيمان تعلو عند أهل هذه العقيدة بازدياد التنكيل بأهل الحق والتفنن فيه والإبداع في تزييف وتشويه صور وآيات الحق. فأجداد شارون هم قتلة الأنبياء ومزيفو الكتب السماوية إلا الفرقان الذي تكفل الله عز وجل بحفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، وهم الذين دسّوا الأحاديث الموضوعة محاولة منهم لتحريف سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهم الذين عمدوا إلى تشويه تاريخ الإسلام وجعلوه نسخا متنوعة الإخراج لألف ليلة وليلة ولروايات جورجي زيدان، ولكنهم لم يفلحوا إلى درجة صبغ هذا التاريخ كله باللون الأسود، بالرغم من نجاحهم في إنتاج قطاع لابأس به في نخبنا الثقافية مشوش العقول والأذهان. وهؤلاء القوم هم الذين ينشرون مختلف الرذائل ويستعملون من أجل ذلك كل الوسائل والأساليب المتطورة، وبالفعل استطاعوا إسقاط طوابير كثيرة من ضعاف النفوس في أمتنا، فضلا عن تمكنهم من إشراك طائفة واسعة من أبناء هذه الأمة في منظومة الإفساد.
وحضاريا ينتمي شارون إلى نفس دائرة انتماء بوش وبلير وبرليسكوني.. وهي (حضارة) تؤمن بمنطق القوة والقهر وقائمة على مبدإ التفوق العنصري، الجنس الأبيض بالنسبة للغرب وشعب الله المختار بالنسبة لليهود، و الاعتقاد بتفوق عنصر بشري على العناصر الأخرى يقتضي التمييز العنصري في مختلف المعاملات والعلاقات، سواء على المستوى الدولي أو الاجتماعي، ونماذج ذلك على سبيل المثال لا الحصر : النظام العنصري البائد في جنوب إفريقيا؛ والبربرية الصربية في البوسنة وكوسوفا؛ ومعاناة السود في أمريكا والجاليات العربية والإسلامية في أوربا.. هذا بالإضافة إلى التقاء كل من الحقد الصليبي والحقد اليهودي على هدف واحد هو العداء للإسلام والمسلمين.
لذلك، فمن هذه الزاوية، زاوية الانتماء العقدي والحضاري، فإن ما قام ومازال يقوم به هذا النموذج البشري، شارون/بوش، من فظاعات وأهوال، فعل منتظر وغير مستغرب، ومن البلادة والحماقة عدم توقع حدوثه مرات أخرى وفي مواطن عربية وإسلامية أخرى من غير أرض الإسراء والمعراج المبا ركة فلسطين.
أما الزاوية الثانية، والمتعلقة بالسنن الاجتماعية، فالله سبحانه وتعالى وضع نواميس وقوانين لتدافع الأمم والجماعات، تقوم على مبدإ احترام السنن الكونية وا تخاذ كل أسباب القوة، لضمان البقاء ولحفظ الأمن والاستقرار ولتنمية الثروات والمحافظة عليها، وهو ما يمكن أن نسميه بقانون الإعداد المطلوب، أما بالنسبة للأمة الإسلامية فيجري عليها قانون ا لإعداد الممكن، الذي سطرته الآية الكريمة {وأعدوا لهم مااستطعتم..}(الأنفال : 60)، والفرق بين القانونين، هو أنه بالنسبة لغير المؤمنين فالاعتماد يكون على الذات بنسبة 100%، أما بالنسبة للمؤمنين فإن الاعتماد يكون بالأساس على معيّة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه تكفل بإلقاء الرعب في قلوب الأعداد وفي المقابل تثبيت قلوب المؤمنين {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبّتوا الذين آمنوا..}(الأنفال : 12) هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تكفل سبحانه بقتال أعداء الله وأعداء المسلمين {فلم تقتلولهم ولكن الله قتلهم.}(الأنفال : 17). ولكن معية الله مرهونة بأمرين أساسيين لازمين متلازمين، هما :
- أولا : الإعداد حسب ا لاستطاعة القصوى.
- ثانيا : الاستقامة الجماعية والفردية، الجماعية في تطبيق شرع الله تعالى في كل مناحي حياة الدولة والمجتمع، والفردية في الالتزام بأوامر الله واجتناب نواهيه. قال تعالى : {إن تنصروا الله ينصركم}.
وفي غياب الاستقامة المطلوبة، فإن الله لن يكتب النصر لنا، حتى وإن امتلكنا الإعداد المطلوب أضعافا كثيرة وكنا أكثر سواد الأرض. وهذه هي الحال التي نحن عليها اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل أكثر من ذلك فإن ا لله ينصر أعداءنا علينا وينزع من قبولهم الرعب منا، ويقذف في قلوبنا الوهن والخوف والاستسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >توشك أن تداعى عليكم الأمم..<. وباختصار فإن درجة علو الكفر مرتبطة بدرجة انحطاط أهل الإسلام، فبقدر انحطاطنا وتفريطنا في ديننا يسلط الله علينا من يسومنا سوء العذاب ويبتلينا بكل أسباب الضعف من تقاتل داخلي وتشتت للصفوف واستبداد سياسي وظلم اجتماعي وفقر بالرغم من وجود الثروات وجهل وتخلف…
ولكن الله سبحانه وتعالى، رأفة ورحمة بنا وصَوْناً لدعوته وجزاء لجهاد أوليائه وعباده الصالحين، يجعل من هذه الهزائم والأزمات وسائل للصحوة واليقظة والرجوع إلى الطريق المستقيم، فينقلب الشر إلى الخير، وخير مثال لنا غزوة أحد التي تحولت بفضل الله تعالى ومشيئته من هزيمة إلى نصر : هزيمة مادية ونصر معنوي. وهذا ما حصل والحمد لله في فلسطين المحتلة، فعندما كان التفريط بالمقدسات قاب قوسين أو أدنى من التطبيق بكامب ديفيد وعندما كادت أن تتحقق أهداف أوسلو بالكامل أي أن تصبح السلطة الفلسطينية شرطة لحماية أمن إسرائيل وعقبة وحاجزا في وجه المجاهدين، بعث الله شارون ليدنس حرم المسجد الأقصى لتنطلق الانتفاضة الثانية، وسخره بعد ذلك لتوحيد كلمة وصفوف الشعب الفلسطيني وتوعية الشعوب العربية وإيقاظها من غفلتها وخمولها وسكونها، وتعرية وإذلال حزب الاستسلام : السلطة الفلسطينية والنظام العربي بصفة عا مة.
ويكفي أن نعلم بأن الشعب الفلسطيني يقاتل ولأو ل مرة بنفسه دفاعا عن نفسه ونيابة عن أمته الإسلامية في صون المقدسات، بعدما كا نت الجيوش العربية أو الفصائل الفلسطينية التابعة للأنظمة العربية هي التي كانت تقاتل نيابة عنه، وكان كلما تعرض لهجوم حَمَلَ ما يستطيع من متاعه وهاجر إلى دول الجوار ليعيش فيها لاجئا محروما من أقل الحقوق المدنية والسياسية، لتصبح المخيمات بعد ذلك محطة لهجرة نسبة لابأس بها من اللاجئين إلى أمريكا وأوربا الغربية والخليج العربي. فاليوم نشاهد شعبا صامدا كل أفراده تحولوا إلى أبطال مجاهدين لا يرضون بالخنوع ولا بالاستسلام، ويفضلون أن تقصف وتدمر بيوتهم على رؤوسهم عوضا من ذلك،وأصبحوا لا يثقون في المنتظم الدولي ولا في النظام العربي ولا في سلطة أوسلو، ولكنهم أضحوا متوكلين على الله حق التوكل ولا يؤمنون إلا به سبحانه وتعالى، فهذه هي بداية الطريق الصحيح، ومن سار على الدرب وصل.
ذ. أحمد الفيلالي