شكلت تفجيرات الحادي عشر من شتنبر زلزالا عميقا وصدمة قوية، هزت المجتمع الأمريكي برمته وجعلته يندهش لهول ما يرى.وهو معذور في ذلك، لأنه ألف بأن مثل هذه الأحداث لا تقع عليه، بل حواليه.
وعلى إثر هذا اشتد غضب الإدارة الأمريكية، التي صممت على الانتقام، موجهة أصابع الاتهام إلى المسلمين في حملة مسعورة، ضمن ما سمي ب: “الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب”، فكانت أفغانستان مسرحا لتفجير هذا الغضب، في محاولة للقضاء على ما عرف بـ :”تنظيم القاعدة” ، بزعامة” أسامة بن لادن”.
والحقيقة أن التحول الذي عرفه العالم عقب الحرب الباردة، فيما سمي بعد ب:”النظام العالمي الجديد”، بعد سقوط المعسكر الشرقي، جعل الولايات المتحدة تنصب نفسها دركيا على العالم، يسمح لنفسه بالتدخل في كل قضايا الشعوب، ، فكانت أحداث واشنطن بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، وجعلت أمريكا تتحرك لتصب سخطها على كل من يعادي سياستها، واصفة له “بالإرهابي”، وإلا فإن ديدنها هو أن تفتعل بؤر التوتر في كل أرجاء العالم، مثلما فعلته في أزمة لو كربي، وأزمة الخليج، وما تفعله الآن من مساندة غير محدودة لإسرائيل لتعميق الأزمة أكثر في الشرق الأوسط، وما هي مصممة عليه من توجيه ضربات موجعة لمحور الشر على حد قولها.
وإن ما تدعيه من أنها راعية السلام، ليعد تناقضا صارخا، “فالإدارة الأمريكية الآن ليست مهتمة بإيجاد تسوية سريعة في الشرق الأوسط ولا في أي منطقة أخرى في العالم، بقدر ماهي مصممة على خوض حرب دائمة وشاملة ضد العالم كله ، لفرض قيادة أمريكا ومصالحها وإملاء إرادتها .ولا يبدو الرئيس الأمريكي الحالي مهتما كثيرا بالحصول على نيا شين المجد كرجل سلام، بقدر ما هو مهتم بأن يتماهى مع الرأي العام الأمريكي اليميني في غطرسته الفارغة”.(د.برهان غليون، مقال:”حتى لانلدغ من الجحر نفسه عشرات المرات…” ، عن موقع الجزيرة.نت).
والغريب في الأمر أن مصطلح “الإرهاب”، الذي تمخض عقب أحداث الحادي عشر من شتنبر، ظل مفهوما فضفاضا يكتنفه الغموض، وهو ما يدعو إلى تحديد تعريف عالمي موحد للإرهاب، يتبناه المجتمع الدولي ويطبقه على كل حالات الصراع .حتى تفرق أمريكا بين المقاومة المشروعة من المستضعفين، كأطفال الحجارة، وبين العنف المرفوض بشتى ألوانه، كما هو حاصل من العدو الإسرائيلي، حتى يغدو التفريق بين الجلاد والضحية أمرا ممكنا.
وكان من نتائج ذلك أن صار وصف” الإرهاب” لصيقا بالمسلمين، وهو ما يبين أن الحملة حملة صليبية، كانت لها انعكاسات خطيرة على المسلمين في البلاد الغربية عامة، وأمريكا على وجه الخصوص، تجلت في مراقبة المساجد، وإدانة الخطباء، والتجسس على مواقع الإنترنت، وتتبع خطوات المواطنين المسلمين والعرب الأمريكيين وغيرهم، وهو ما اعتبر مسا بالحريات العامة التي يكفلها الدستور.
فأصبح المسلم في الغرب يعيش توجسا وتخوفا في كل لحظة وحين، من جراء ما أصبح يصيبه من إساءة واعتداء.
وضع كهذا جعلني أستشعر حقا نفسية المهاجرين من أبناء المسلمين إلى تلك الديار، وتساءلت عن الأهداف القريبة والبعيدة المزمع تحقيقها من هجرتهم.
لقد صار في حكم المقرر عند الجميع، أن الغرض الأول من وراء الهجرة إلى تلك البلاد، هو البحث عن شغل، لتحسين وضع اجتماعي ما، غير أن هذه الخطوة يمكن اعتبارها قد انتهت، ببرهنة هؤلاء المهاجرين عن جدارتهم بقيامهم بالمهام المسندة إليهم، وهذا هو الامتحان الذي يحقق غرضا دنيويا، ليبقى هناك امتحان ثان من نوع آخر، حري بهم أن يجتازوه بنجاح، وأن يحققوا فيه درجات الامتياز.
التحلي بقيم الإسلام وتعاليمه، وترجمة كل المعتقدات الدينية إلى سلوك عملي.
والمسلم بمراعاته لهذه الأمور، يكون نموذجا للقدوة الحسنة، متأسيا في ذلك برسوله المصطفى عليه السلام، الذي كان قمة في الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن، حتى أثنى عليه الحق جل وعلا بقوله:{وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم/4).
وهو أيضا ذو قصد يختلف عن الأول، إذ القصد هنا هو ابتغاء كل ما يقرب إلى مرضاة الله عز وجل، وهو الشيء الذي يدفع العامل المهاجر إلى جعل كل حركاته وسكناته تحتكم إلى تعاليم الشرع، فهو أينما حل أو ارتحل يكون مستحضرا مراقبة الخالق عز وجل له، ممتثلا لقول النبي عليه السلام: >اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن<(رواه الترمذي في البر والصلة، باب : ما جاء في معاشرة النساء).
فبالسير على هذا النهج المتواصل، والتحلي بهذا السمت المتميز، يمكن للمسلم أن يبرز الإسلام الحقيقي الذي جسده الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.ووقتها يكون قد جمع بعمله بين غرضين:ديني ودنيوي.
ولايعني هذا أن يتسم سلوكه بالسلبية والخنوع والتقوقع، بل عليه أن يظهر بمظهر العزة والحركية والمشاركة الفاعلة في المجتمع بما يسهم به في البناء الحضاري للإنسانية، فيكون بذلك قادرا على خوض غمار الصراع من أجل إثبات هويته، والدفاع عن مرجعيته، وهذا يفرض عليه في مقام أول أن يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات.
والبدء في هذا يكون بإظهار يسر الإسلام وسماحته، وأنه دين التواصل والحوار، والتعايش السلمي، الذي يستمد من اسم الجلالة :”السلام”، كل هذا بما يظهر المسلم في صورة تغري بمعرفة المورد الذي يتزود منه في استجماع هذه الخصال الحميدة، على غرار ما فعلته السيدة عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خلقه عليه السلام، فأحالت السائل على القرآن بقولها : >كان خلقه القرآن<(رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب : صلاة الليل ، ومننام عنه أو مرض).
غير أن هذا لايعني في مقام ثان أن يتقاعس المسلم عن تعطيل بعض الواجبات المفروضة عليه، مثل: واجب النصح والنصرة لإخوته المسلمين، بشرط أن يكون النصح بالحكمة والموعظة الحسنة التي أرشد إليها الإسلام في أكثر من موضع من القرآن، وأن تكون النصرة بما يحقق القصد منها.
وأعتقد أن هذا السلوك كنا نلمحه لما قامت بعض الجاليات المسلمة في مختلف دول الغرب، برفع شعارات الاستنكاروالشجب لما يتعرض له إخوانهم في فلسطين، من إبادة واستئصال.
كل هذا يجب أن يتم في سلوك حضاري، يبتعد عن الإتلاف والتخريب، اللذين يتنافيان وآداب الإسلام أولا، آخذين في حسبانهم ثانيا بأنهم قلة، عليهم أن يتحدوا ويتكتلوا حتى لا يسهل التهامهم من أول قضمة.
إننا إذ نقترح الصورة المثلى التي يفترض أن يكون عليها المسلمون في بلاد الغرب، والمهاجرون منهم، إذا اعتبرناهم سفراء الإسلام، نتساءل عن حقيقة واقعهم؟.
بإلقاء نظرة خاطفة عليهم، يظهر أن كثيراً ليسوا في عامتهم على الصورة التي تجلهم كمسلمين، فالانسلاخ عن كل ما له صلة بالإسلام، يبين أن هؤلاء الذين أضحوا لا يحملون من الإسلام إلا الاسم، ومن القرآن إلا الرسم، غير قادرين على التأثير في الآخر، لأنهم بدورهم يعرفون فراغا روحيا، هم أحوج إلى ملئه من غيرهم، لأنهم انبهروا بالغرب، وارتموا في أحضانه حتى النخاع.
وإن أي رغبة لإسماع صوت الإسلام لا تروم نقد الذات ومراجعتها، ستدخل في خداع مع النفس، وجرلها إلى النفاق الصراح.قد يقول قائل : إن أحداث الثلاثاء الأسود، ربما جرت على المسلمين في الغرب، البلاء والفتنة، لأنهم أصبحوا عرضة للامتهان والاضطهاد وما إلى ذلك، ما دام مبعث تخوف الغرب هو الإسلام والمسلمين، ولكننا نقول: “رب ضارة نافعة”، إذ شهدت مختلف دول الغرب بعد الحادث المهول تحولا نوعيا تمثل في لهفتهم وشوقهم لمعرفة ما كانوا يجهلونه عن الإسلام، فكثر اقتناؤهم لنسخ القرآن المترجمة وتفاسيره، وكل ما له صلة بالدين عموما. وهذا في حد ذاته شيء إيجابي بالنسبة للإسلام والمسلمين.
وهذا الاهتمام بالإسلام والوعي الجديد بحقيقته، أظهر فعلا مدى تقصير المسلمين هناك بواجبهم في العمل على إظهار إسلامهم وتقريبه إلى هؤلاء، لأسباب قد يكون منها:
قلة البضاعة عند البعض، إن لم نقل انعدامها، ومعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه.
أو عامل اللغة الذي يشكل عائقا في التواصل، وهو ما يظهر أن جالياتنا لازالت لم تدخل بعد في جدول أعمالها، واجب الدعوة إلى الله بقدر الاستطاعة طبعا، إذ كل ميسر لما خلق له.
ومن ثم، فهم لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة اللغات الحية، التي تمكنهم من القيام بهذا الدور، فضلا عن أن يتحركوا لإبراز صورة الإسلام، عن طريق الكتابة، إذ لا يخفى ما للإعلام من دور ريادي في الدفاع عن كل ما علق بالإسلام والمسلمينمن شوائب.
إن واقع كثير من المسلمين بالغرب، يدعوهم إلى القيام بعملية تخلية وتحلية لأنفسهم، إن هم أرادوا فعلا أن يضطلعوا بما ينتظر منهم، تتمثل الأولى في ترك جميع المعتقدات الفاسدة، والسلوكات القبيحة، وتتمثل الثانية في التزين بقيم الإسلام وأخلاقياته.
أي أن الاختيار الأوحد لتقديم صورة نقية، وضيئة عن الإسلام، أصبحت مرتبطة بمراجعة شاملة لهويتها وأهدافها في الغرب، وهو ما يفرض وضع المسلم في الميزان، لمعرفة إلى أي حد هو في حاجة إلى إعادة قراءة جديدة لدينه، سليمة في التصور، صحيحة في الاعتقاد، حتى يجعل كل ما يصدر عنه مضبوطا بضوابط الشرع.وحينئذ سيكون في مستوى القيام بمسؤولية الاستخلاف التي أناطها الشارع به.
على أن ما يجب التنبه إليه، هو أن الغرب ليس كله شرا، فلئن كان الحقد الدفين هو السمة الغالبة على أبنائه، غير أن الرجاء لا ينقطع من البعض الآخر منهم، الذين رأينا أكبادهم تتقطع حنقا على ما يقع للمسلمين في كل مكان من تنكيل وتمثيل، لا لشيء إلا لأنهم ظلوا على الفطرة السليمة، المتهيئة لقبول الحنيفية السمحة، فما على المسلمين إلا أن يأخذوا بأيديهم، ويتفقد وهم دوما، وهذا بطبيعة الحال لا يحصل بين عشية وضحاها، بل ربما احتاج إلى وقت غير يسير.
فلنتخذ من أحداث الحادي عشر من شتنبر، مناسبة لتغيير ما بأنفسنا لعل الله يغير ما بنا.
ولنعلم أن الثبات على الدين وقت البلاء، هو أصل التدين، ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نكل بهم، المثل الأعلى؛كبلال بن رباح؛وعمار بن ياسر وغيرهم. محتسبين أعمالنا على الله تعالى، متيقنين من أنه على قدر البلاء يكون الجزاء.
ولنستوعب الدرس البليغ منها، الذي يظهر على أن وحدة الأمة الإسلامية في قوتها واتحادها، ولنتصور كيف أصبحت المقاطعة الاقتصادية للبضائع الأمريكية شعارا قض مضجع الإدارة الأمريكية، وهو ما يجعلها من دون شك، تعيد حساباتها، ليس لتغيير مواقفها، ولكن فقط، من أجل استخلاص شيء واحد، وهو أن المسلمين إن قدر لهم أن يتحدوا في أمر ذي بال، سيكون ذلك هو المنعطف الخطير الذي سيقلب ميزان القوى، ويسقط ما بيد أمريكا، وإن غدا لناظره قريب إن شاء الله.
ذ. حسن بلباكري