حين أطلق الجنود الصهاينة الرصاص على المسلمين في ساحة الأقصى كان ذلك إيذاناً بإطلاق رصاصة الرحمة على مشروع السلام ذلك الخداج الذي تعسرت ولادته بضع سنين وحين كانت المروحيات الإسرائيلية تقصف بعض مباني إدارات السلطة العرفاتية فقد كانت تقصف أوسلو وملحقاتها !!
فاليهود إذن انقلبوا على ما صنعوا وأحرقوا ما زرعوا، فما الذي تغير ؟ ولماذا ؟ هذا ما يقتضي منا العودة إلى مبررات مدريد وأوسلو ومشروع الولايات المتحدة الشرق أوسطية في النهج الصهيوني.
بعد مؤتمر مدريد المشؤوم قلنا ما ننقله الآن حرفياً : -
> إن ما يسمى مشروع السلام لم يأت تبعاً لتغير الظروف الدولية، وانحسار مرحلة الحرب الباردة، ووفقاً لمقتضيات الوفاق الدولي -كما يصور ذلك الإعلام الغربي وذيله الإعلام العربي- فهذه التغيرات نفسها أعراض للمتغير الأساسي، وهو الخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة.
إن هذه الخطة ببساطة -قد عدلت عن فكرة إقامة دولة إسـرائيل الكبرى، وبعبارة أصح قد عدّلت هذه الفكرة لأسباب ذاتية ضرورية، أهمها أن دولة اليهود وجدت نفسها بعد 40 سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات، وكائن غريب في محيط من العداوات.
فعلى المستوى الأمني لم تنجح في السيطرة على ما ابتلعته من أرض فلسطين فكيف تسعى لمزيد من الأراضي ؟ وإن لبنان التي هي أضعف الجيران وأبعدهم عن العداوات ظلت مصدر قلق وإزعاج لا نهاية له، حتى بعد اجتياحها المعروف (والآن في انتفاضة رجب هي الجبهة الوحيدة الفاعلة).
والمشكلة السكانية تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيراً، فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة، والإغراءات البراقة، للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية، من اختلال الأمن إلى الطبقية المقيتة إلى التناحر الحزبي.. إلخ.
والأفاعي عندما تجتمع -على اختلاف ألوانها وأشكالها- لابد أن يذوق بعضها سم بعض، إضافة إلى الحجارة التي تهشم رؤوسها باستمرار من أيدي أشبال الإسلام، فكيف إذا وصل الأمر إلى الرصاص؟.
ولقد رعبت دولة اليهود من ارتفاع مؤشر الهجرة المضادة، وقلة استجابة السكان لدواعي تكثير النسل وأظهرت الإحصائيات الرسمية أنه مقابل كل شهيد من أبناء فلسطين المسلمة يولد عشرات وعشرات.
ومن تجربة إسرائيل التي لا تقبل النقاش أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها، فعملاؤها هم الذين تولوا سحق الفلسطينيين في لبنان والأردن وسورية والكويت وغيرها.
فلماذا لا تضع يدها في أيديهم ضمن خطة أخرى تتنازل فيها عن أوسع حدود الأرض التوراتية إلى أضيقها ؟ ولا غرابة في هذا على عقيدة اليهود التي تؤمن بالبداء وبأن الأحبار يصححون أخطاء الرب -تعالى الله عما يصفون-.
ثم إن إسرائيل لكي تقنع الإنسان الغربي المفتون بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يمكن أن تظل ثكنة عسكرية وسجناً كبيراً إلى الأبد.
كما أن المقاطعة العربية مهما بدت شكلية، توفر حاجزاً نفسياً لشعوب المنطقة، فلابد من افتعال حركة >تكتيكية< يتراجع فيها اليهود ويسلمون بما يسمى >الحكم الذاتي المحدود< لكي يتم الهدف الأكبر استراتيجياً >التخلي عن التوسع الجغرافي مقابل التغلغل السياسي والاقتصادي والثقافي< وهو ما عبر عنه أكثر من مفكر ومسؤول بمصطلح >الولايات المتحدة الشرق أوسطية<!!
وهكذا سيؤدي فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وإعلان فتح القنوات السياسية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا، وتصبح ثروات المسلمين ركازاً لهم، وجامعاتهم ومؤسساتهم الثقافية أوكاراً لفكرهم، وحواضرهم التجارية مراكز لبنوكهم وتجارتهم وأسواقاً لبضائعهم ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة البارون اليهودي الربوي !!
هذا هو هدف السلام المزعوم مهما غلفوه أو قنعوه، والتخطيط الصهيوني لم يتغير ارتجالاً ولا هو نتيجة دراسات فكرية وميدانية بحتة كما يظهر – بل إن أسبابه وجذوره تمتد إلى ما هو أعمق من ذلك، إلى خبيئة النفسية اليهودية وحقيقة الجبلَّة اليهودية، وواقع التاريخ اليهودي القديم والحديث. فقيام كيان يهودي متميز مستقل كسائر الكيانات السياسية أو العقدية في العالم أمر يتنافى مع تلك النفسية والجبلة والتاريخ، والخطأ الأكبر الذي وقع فيه مسطرو أحلام العودة منذ الأسر البابلي إلى الاضطهاد الأوربي، وخطط لـه أمثال هرتسل وفيشمان ووايزمان هو أنهم غفلوا أو تغافلوا عن هذه الحقيقة، فلما قام الكيان المنشود خرجت الحقيقة كالشمس من تحت الركام !!
وليس بخاف على اليهود ولا على المطلعين على الحركة الصهيونية الحديثة أن جماعات وزعامات يهودية ( دينية وفكرية ) ترفض قيام دولة يهودية متميزة بل تعكس النبوءات التوراتية، على أهلها وتقول إن قيام الدولة هو نذير الهلاك والفناء لليهود، ولها على ذلك أدلة وشواهد من الأسفار والمزامير ومن واقع التاريخ.
لقد جسد قيام دولة إسرائيل المأزق الكبير الذي وقع فيه اليهود، حين اصطدمت الأحلام التلمودية العنصرية التي لا حدود لها بواقع النفسية اليهودية العليلة، التي لم تكن يوماً من الأيام رأساً في قضية ولو كانت قضيتها الذاتية، فكيف تكون رأساً في قضية العالم كله، ولذلك فإنها تعلل نفسها بخروج المسيح الموعود الذي يحمل عنها هذه التبعة.
فاليهود لم يكونوا في حقبة من أحقاب تاريخهم رأساً في قضية ولوكانت قضيتهم، ولو كانوا مرة واحدة لكانت في هذا العصر وهو ما لم يكن!! فهم كالشجرة الطفيلية لا تنمو إلا على ساق غيرها، أو الدودة المعوية التي لا تأكل إلا قوت غيرها، فمن حادثة بني قينقاع حيث كان المنافقون هم الناطقين الرسميين الظاهرين -إلى مؤامرة الأحزاب- حيث كان الجند جند قريش وحلفاءها لا جند قريظة وأخواتها -إلى الإدارة الأمريكية- حيث لا يزال اليهود وهم يسيطرون على الجزء الأكبر من الاقتصاد والإعلام والتأثير السياسي..إلخ يستخدمون أمثال نيكسون وكارتر وريجان وبوش وهم جميعاً نصارى !!
وقد عاشوا في أحشاء أوربا وتسلقوا شجرة الحقد الصليبي فكان لهم حبل من الناس. وعندما أصبح لهم لأول مرة منذ قرابة ألفي سنة دولة وحكومة ظهرت السنة الربانية {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى}(الحشر : 14) فهذه الدولة تعج بالمتناقضات والصراعات، وتتكفف العالم كله وتعصر اليهود وغيرهم في كل مكان عصراً لإدرار التبرعات، ولا تستغني في أي محفل دولي عن المندوب الأمريكي ونظرائه، وإن كانت في الظاهر تمثل مع أمريكا دور الثعلب مع النمر!!(1).
إنهم دائماً يحركون الدمى من وراء الستار ولو ظهروا على المسرح لانكشفت سوءاتهم وبطل سحرهم. إنهم يحرصون على تبني أي رئيس أمريكي والإطاحة به ولكنهم لا يستطيعون أو لا يفكرون في أن يجعلوه رئيساً يهودياً وحكومته حكومة يهودية صريحة !! (والآن رشحوا يهودياً نائباً للرئيس).
وأمر آخر يقض مضاجع يهود دولة إسرائيل، هو أنه ليس في وسع الشراهة اليهودية العمياء أن تظل حبيسة الأرض التي قالت عنها التوراة أنها تفيض لبناً وعسلاً، مع أن المنطقة الكبرى حولها تفيض نفطاً وذهباً، ثم تظل رهينة الفكرة الداعية لقيام دولة ما بين الفرات والنيل وفق النموذج النازي العسكري الذي عجزوا عجزاً واضحاً عن السيطرة على ما تم لهم منه.
بل إن ما تحقق من هذا الحلم كاف للعدول عن الفكرة الأخرى التي أقام عليها “روتشيلد” وذريته مملكة لا نظير لها في التاريخ ” مملكة الربا والإعلام والجاسوسية “، وهي مملكة تتفق تماماً مع الجبلة الطفيلية، وليكن ما احتلوه من الأرض في حروبهم المتعددة -أو جزء منه- منطلقاً لهذه المملكة، وتربة لهذه الشجرة الطفيلية التي سوف تترعرع وتخترق بثقافتها وفكرها ومناهجها سائر المنطقة، التي يسيل لعاب العالم كله لثروتها !
فإلى متى يظل وصولهم إلى هذه الثروات الهائلة والكنوز السائلة ملتوياً يمر بقناة الأمريكان والأوربيين !! وهم الجيران الأدنون ؟!
إن اليهود أكثر دهاءً وأكثر شراهة من أن يظلوا موغلين في خطأ جسيم كهذا -خطأ التوسع الجغرافي غير المضمون حتى لو كان هذا هو ما تخيله أحبار التلمود منذ سحيق العهود، وسواء خرج المسيح أو لم يخرج !! < أ.هـ(2).
ذلك ما قلنا من قبل فما الثابت وما المتغير في الوضع الراهن ؟!
لقد صدقت النبوءة في جانبها السلبي، لسبب واحد واضح هو أن طبيعة النفسية اليهودية ثابتة لا تتغير بتغير استراتيجيات الحرب والسلام، وإلا فكيف تخسر الدولة الصهيونية مكاسب السلام الهائلة ؟ وكيف يكون السلام الذي تسعى إليه كل الأمم هو سبب الانهيار أو الضعف ؟ إن الدولة الصهيونية هي الآن أضعف ما تكون مع أنه لم يحاربها أحد، بل ليس في نية أحد أن يحاربها، فلماذا ؟ لابد أن السبب ذاتي محض، وإلا فلو كانت تلك المشروعات موضوعة لشعب آخر ولو كانت تلك الاتفاقات معقودة مع طرف آخر لأمكن الوصول إلى نتائج ثابتة، باحتمالات معقولة للنقض أو التحايل،كما نرى في سائر النـزاعات بين سائر البشر، ولكن اليهود لهم طبيعة خاصة تخالف سائر البشر، طبيعة خاصة في المفاوضات، وطبيعة خاصة في العهود، وطبيعة خاصة في التملص والنكوص.
وباختصار نقول إن الحسابات التي بنيت عليها قرارات مدريد وأوسلو تقوم :
على أساس أن السلام يكسر الحواجز النفسية -وهذا معقول إلا في الأمة التي تكون نفسيتها نسيجاً معقداً من الحواجز،وهي الأمة المغضوب عليها “اليهود”-.
وعلى أساسأن السلام مطلب حيوي لكل الأمم وهذا حق إلا بالنسبة للأمة التي لا تعيش إلا على العدوان والوحشية والعنصرية الحاقدة !!
وحتى لا يتهمنا أحد بالعنصرية -أو يحاكمونا كما حاكموا جارودي !!- لن نستدل على هذا بكتاب الله العزيز ولا بأقوال البشر من الأمميين كافة، بل من التوراة نفسها التي قام الكيان الصهيوني على نبوءاتها >وليسمع من له أذنان< !!.
< بقلم : الشيخ سفر الحوالي
——–
(1) يقال في الأساطير إن الثعلب زعم أن الوحوش تهابه كما تهاب النمر. فكذبه النمر في هذا، فقال الثعلب : إن لم تصدقني فتعال معي لترى بعينك كيف تفر كلها مني !! فسار النمر معه وكلما مرا على حيوان هرب منه لا من الثعلب. والثعلب يقول: هل صدقت الآن !!
(2) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى ص (9-13).