هموم داعية : التعليم الأصلي :هل وفى أهله له؟


معاهد التعليم الأصلي- كما تسمى في عصرنا- أو الجوامع والمدارس التي احتضنت ثقافتنا الذاتية كلها، جزء مشرق من تاريخنا وجانب مثمر جليل من  حضارتنا، ورسالتنا الكبرى.

بل هي الأساس لوحدة أمتنا على اتساع رقعتها المكانية و الزمانية، فإن ما قدمته هذه الجوامع من زاد روحي وفكري ربط الخلف بالسلف وربط شرق الأمة بغربها وأمحت الفروق بين الأعصار والأمصار فإذا المسلمون جميعا يلتفون حول كتاب ربهم وسنة نبيهم، ويحكمون الارتباط بأخلاقهم وتقاليدهم وأهدافهم، ويحسنون التفاهم والتعبير العالي بلغتهم وآدابهم، ويثبتون الملامح الوسيمة لأمتهم، فهي واضحة الشخصية معروفة الغاية، مأنوسة الصورة للصديق والعدو على سواء.

ولنعد إلى الوراء قليلا، لقد نجح الأتراك منذ خمسة قرون تقريبا في الاستيلاء على (القسطنطينية) واشتبكوا فيحروب عوان مع الصليبية الغربية، ومع أنهم عجزوا عن حماية الأندلس فقد استطاعوا وقف الزحوف الصليبية على العالم الإسلامي بضعة قرون… لكن الأتراك الذين  أصابوا سهما من التوفيق في سياستهم الخارجية وقدرتهم العسكرية فشلوا فشلا بينا في سياستهم داخل العالم الإسلامي الذي حكموه دهرا. فإذا الحضارة الإسلامية المتفوقة تتراجع، وإذا الثقافة العربية – وهي شريان الحياة الإسلامية – تذبل، وتلفت المسلمون من المشارق والمغارب، فإذا الأزهر، وبعض المعاهد المشابهة هي التي بقيت وحدها تمد الإسلام والمسلمين برشفات المعرفة ا لتي تحتاج إليها الأمة الكبيرة كي تحيا.

والواقع أن الجامع الأزهر هو المستقر الذي أوت إليه علوم الدين واللغة، وأضحت القاهرة به العاصمة الثقافية للعالم الإسلامي أجمع، وهرع الطلاب إليه من شواطئ  المحيطات الهادي والهندي  والأطلسي.

وإلى أن طلبت العلم في الأزهر كان لي زملاءمن الصين واليابان وأندونيسيا شرقا، ومن المغرب والسنغال والجزائر غربا…

وفي الغارة الصليبية المعاصرة على العالم الإسلامي كان لابد من وضع خطط خبيثة لإنزال الأزهر عن هذه المكانة،  ومنعه من تأدية وظيفته الخطيرة، وتجفيف الينبوع الذي يستقى منه المشارقة والمغاربة أصول دينهم ومعالم وحدتهم وعناصر وجودهم المادي والأدبي، وبذلك يمكن الإجهاز على أمة أحاطت بها الذئاب.

ونحن نعتقد أن القرآن باق ما بقيت الحياة على هذا الكوكب، وأن المسلمين باقون ما بقي القرآن، وأن الأزهر باق ما ظل ولاؤه للإسلام حيا وجهاده له قويا.. !

ولنقل في صراحة: إن الاستعمار العالمي لا يسوؤه أن ينبغ في القاهرة طبيب يسبق زملاءه في مستشفيات لندن أو موسكو ما دام هذا الطبيب ملحدا أو مقطوع ا لصلة بالإسلام، فالعبقري الملحد يمكن أن يعمل تحت أي راية، وأن يستأجر في أي ميدان، إنه كالجندي المرتزق يشتري بالثمن الغالي أو بالبخس.

ومن ثم فالجامعات المدنية البحتة لا  تخيف الاستعمار، بل قد يعينها ويشجعها، إن الاستعمار يخاصم بعنف كل عمل له صبغة إسلامية، ويشتد غضبه إذا رأى الثقافة الإسلامية تملك زمام التوجيه، أو رأى  الأزهر يخرج علماء أوفياء لدينهم، مشربين روحه، متابعين فتوحه العقلية والأدبية.

وهذا الموقف  الحقود يفرض علينا مزيدا من الحذر في حماية أنفسنا وتحصين قلاعنا واكتشاف ما يبيت لحاضرنا ومستقبلنا، ويفرض علينا قبل ذلك كله أن نصحح أخطاءنا ونسد الثغور التي اقتحمنا منها، وتسلل العدو منها إلى حمانا.

إن التعليم الأصلي في صدر الإسلام- ولم يكن ثم غيره – لبى حاجات الأمة التربوية والتشريعية والأدبية، وقد كان له قدرة تامة على تكوين أجيال ناضجة، وجعل المسلمين – عالميا – أمة تعطي أكثر مما تأخذ، بل جعلها تدفع ولا تندفع، تغزو ولا تغزى، نعم… كان المسلمون بازدهارهم العلمي الأمة الأولىفي العالم… !

ثم حدثت بعد ذلك أمور ليس هنا مكان متابعتها، فلنقفز قفزة واسعة لنرى هذا التعليم من نصف قرن فقط.

وسأجعل نفسي  ومراحل دراستي منطلق التعليق الذي لابد منه ! في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية درسنا تاريخ الدولة العثمانية حسنا، إن دراسة أي شعب إسلامي أمر واجب، فالمسلمون أمة واحدة غير أني أتممت دراستي الأزهرية التي استغرقت خمسة عشر عاما، دون أن أدرس حرفا عن المسلمين جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا نفسها، وشمال أفريقيا وغربها في العصر الحديث!

لم نعرف حرفا عن الاستعمار الهولندي لجزر أندونيسيا، ولا الأسباني لجزر سولو ومندنلو وسائر الجزر التي سميت بعد (الفلبين)، لم نعرف كيف استعمر الفرنسيون الهند الصينية ولا ما حدث للمسلمين في فطانى والملايو وسنغافورة..إلخ

وما يقال عن هؤلاء يقال مثله عن جهلنا المطبق بمسلمي التركستان الصينية والروسية وبقية الشعوب الإسلامية التي ابتلعها التنين الروسي.

أما القارة السوداء – والإسلام هو الدين الأول في أقطارها- فالوضع أدهى وأمر، وقد أنشئت فيها الآن خمسون دولة وزع المسلمون عليها بخطة بالغة الخبث كي يذوبوا على عجل أو على مكث! المهم أن يذوبوا على مر الأيام.

لقد تبين لي أن دراستنا للتاريخ الإسلامي ضحلة، وأن دراستنا للتاريخ الإنساني فوق الصفر بقليل.

كيف هذا؟ إن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للقارات كلها، فكيف نجهل هذه القارات ولا نعرف ما يعمرها من أجناس ومذاهب وفلسفات؟ ولماذا نلوك بألسنتنا أن رسالتنا عالمية، دون أي سعي للاتصال بهذا العالم الرحب؟ ولماذا انتظرنا حتى اكتشف غيرنا الأمريكتين وأستراليا ووضع عليها طابعه المادي والأدبي، ثم جاء يطرق أبوابنا وهو يجر أذياله خيلاء واستعلاء ليعلمنا ما لم نكن نعلم؟

إن القرآن الكريم يجعل السياحة من خلال الفضل، ويجعل دراسة التاريخ كله من مكونات العقل!

{أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في  مساكنهم، إن في ذلك لآيات، أفلا يسمعون} (السجدة : 26).

عن كتاب : علل وأدوية ص :173

المرحوم الشيخ

محمد الغزالي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>