بعد هزيمة أو كارثة سنة 1967 اجتمعت الدول العربية في الخرطوم بالسودان، فكان يطلق على هذا الاجتماع ” قمة الخرطوم” التي خرج منها أصحاب القمة بقرارات تاريخية عرفت بقرارات “اللاءات ” المشهورة: لا صلح، ولا اعتراض، ولا سلام.
كانت هذه اللاءات في الحقيقة عبارة عن ذر الرماد في أعين الشعوب حتى لا تثور على قادتها الذين تاجروا بالقضية الفلسطينية طمعا في الزعامة الجوفاء، فكانت كارثة 67 كشفا لسوآتهم وفضحا لاهتراء سياسيتهم، فخرجوا بقرارات ظاهرها الصمود والثبات والعزم على استرداد الهيبة واسترجاع الحقوق، أما باطنها فكان اضمارا للخيانة والتواطؤ في الخفاء، والعزم على تشريد الشعب الفلسطيني والتخلص من قضيته بالتحكم في مقاومته للمحتل، وبالتجريد من السلاح، وبالطرد من الأوطان العربية، وبمنع المعونة عنه بالتدريج وبمختلف العلل والأسباب.
تاريخ أسود يستحق القراءة من الأجيال الشابة لتعرف كيف تكون الخيانة والعمالة والعبث بمصالح الشعوب على مستوى الأصعدة العليا، ولتتعلم أيضا كيف تقرأ الحاضر ولا ترهن المستقبل أو تأتمن عليه من لا زال يعيش بيننا – من الساسة والقادة وأهل الفكر -بعقلية العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، عقود التجسس على الشعوب وإحصاء الأنفاس على أحرارها، وعقود الارتماء في أحضان العدو، وعقود الشعارات القاتلة للذات وأصالتها، وعقود الانقلابات بتواطؤ مع المخابرات الأجنبية، وعقود الصراعات المستميتة بين الرجعية والتقدمية…إلى غير ذلك من النظريات والأطاريح التي ألهى بها قادة تلك الحقبة شعوبهم، وما زال لهؤلاء فلول بأشكال وألوان جديدة يعملون جهد الإمكان على النفخ في النعرات القديمة، ويعيشون على فتاتها متقاضين أجورا مضاعفة على مساهمتهم في التهديم والإلهاء، رغم تيقنهمبأن الركب قد فاتهم، وأن الإسلام دين الأمة وهويتها أصبح هو المستهدف من الأعداء، وهو الملجأ والملاذ والحصن الذي به تحتمي الأمة وتتحصن، أما ما عداه من مختلف البضاعات الفكرية والسياسية التي يقتات منها من ليس له في الخلود ولا التاريخ الجدي نصيب، فذلك مجرد ارتزاق بئيس في أسواق النخاسة الدولية.
وها نحن نرى الآن أن تلك اللاءات القديمة سقطت الواحدة تلو الأخرى كما تتساقط الأوراق في فصل الخريف، بل تعدت قمم الألفية الثالثة مجرد القبول بالنعمات إلى الرضا بالتطبيع الذي يعنى إعلان الهزيمة الشاملة، وقبول الهيمنة التامة، ومع ذلك جاءت الهدية رخيصة، لأن هبابلة العصر يريدون المحو والاستئصال والإبادة، فهل يدرك المهرولون أن هداياهم لا تساوي شيئا ماداموا هم وهداياهم مملوكين للأصنام البشرية، ألم يقرأوا في الفقه القديم >إن العبد ما يملك لسيده< تخلف مريع في الهم، والوعي، والقراءة التاريخية، وتخلف أفظع في علو الهمة، كل ذلك جلب هذا البلاء الذي أغرق الأمة في وحل الذل والهوان على يد من يبحثون لأنفسهم عن الراحة والدعة والأمان.
لقد ظهر عيانا بيانا أن الكافر لا يحمل مشروعا إنسانيا رغم تدثره بترسانات من حمولات الشرعية الدولية، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والطفل، وحقوق الشيوخ والعجزة، وحقوق الحيوان، وحقوق البيئة، وغير ذلك، من الحقوق التي لا تحصى، والتي ظهر أنه عار منها تماما إلا من حق واحد هو حق المصلحة الخاصة، وحق الأثرة والاستئثار بحق الغير وأراضيه وثرواته بدون مناقشة ولا مراجعة.
عما قريب سيكتشف العالم كله قبل شعوبنا المتخلفة الزاهدة في دينها أن الأمة الإسلامية هي التي تحمل مشروعا حقيقيا فيه كل مقومات النهوض الإنساني والحضاري المتوازن، وسيقبلون بشوق إلى واحة الإيمان بعد العيش الشقي في بيداء الكفر وصحراء العتو والطغيان، وسيعرفون أن “لا إلهإلى الله محمد رسول الله ” هي اللاءة الوحيدة التي لا تعرف السقوط أبدا، وأنها وحدها الكفيلة بقهر العدوان وإسعاد الإنسان.