إذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر فسنجد الأمة -إلا من رحم ربك- في حالة “الغثاء” التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، حين قال : >يُوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها<، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : >بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن<، قالوا : وما الوهن يا رسول الله؟ قال : >حب الدنيا وكراهية الموت<(أخرجه أحمد وأبو داود).
فإذا كان هذا حال الأمة التي توجه إليها الدعوة ، سواء لإقامة القاعدة الصلبة، أو القاعدة الموسعة، أو لعامة الناس، فيجب أن نتعرف على الأسباب التي أدت بالأمة إلى هذا الوضع، لكي نصف العلاج الناجع، كما يفعل الطبيب حين يُستدعى لعلاج المريض، يفحصه أولاً ليعرف حقيقة مرضه، ثم يصف الدواء.
ولا يحسبن أحد -بادئ ذي بدء- أن القاعدة الصلبة التي تقع عليها مهام الدعوة قد أنزلت من السماء، مبرأة من العيوب! كلا إنها جزء من هذه الأمة تعيش نفس ظروفها، وتتعرض لذات أمراضها. ولكن إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : >خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فَقُهُوا<(أخرجه البخاري). فلنقل : إنه في الجاهلية الجزئية التي قال ابن تيمية رحمه الله إنها توجد في كثير من أقطار الإسلام، يوجد “خيار” يمكن بالجهد اللازم الذي يبذلونه في ذوات أنفسهم أن يشكلوا نواة للحركة، ثم “خيار” آخرون يمكن بالجهد اللازم كذلك أن يشكلوا القاعدة الموسعة التي تتكون حول النواة وتقتدي بها، ثم يأتي بعد ذلك دور عامة الناس، فيكون منهم خيار بقدر من الله يستجيبون ويلتزمون، وآخرون يزعهم السلطان إذا لم يزعهم القرآن.
والآن فلننظر فيأحوال هذا الجيل الذي تُوَجّه إليه الدعوة.. ما الذي أوصله إلى حالة الغُثاء التي يعيش فيها، ليتبين لنا من أين نبدأ علاجه، وليتبين لنا كذلك الخطوات اللازمة للعلاج.
هناك أمراض كثيرة في الحقيقة أصابت الأمة في مسيرتها التاريخية، بعضها جاء من داخلها، وبعضها جاء من قبل أعدائها، وقد يكون من الصعب إحصاؤها تفصيلاً، ولكنا نزعم أن هناك أمراضاً بارزة لا تخطؤها عين الفاحص.
من أبرز هذه الأمراض الفكر الإرجائي، الذي يقول إن الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار باللسان، وإن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان!.
فأما أن التصديق القلبي والإقرار باللسان لازمان لإثبات الإيمان فأمر لا خلاف عليه، وأما أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان فبدعة خطيرة، وانحراف شديد عن حقيقة هذا الدين، الذي ما قام -وما يمكن أن يقوم- بغير عمل وجهد ضخم يبذل في واقع الأرض وما كان يمكن أن تزول غربة الإسلام التي كان فيها أول مرة(1) بمجرد التصديق والإقرار، بل لا يمكن أن يقوم أ أي نظام في الأرض فضلاً عن أفضل النظم كافة، بمجرد التصديق والإقرار، إن لم يبذل عمل معين لتحويل هذا التصديق القلبي والإقرار اللساني إلى واقع مشهود!
وأيا كانت الأسباب التاريخية التي أدت إلى تفشي الفكر الإرجائى، فقد أحدث مفاسد عظيمة في بنية الأمة منذ أخذت تتفلت من التكاليف، ثم يوهمها الفكر الإرجائي أنه لابأس عليها من هذا التفلت، مادام قلبها عامراً بالإيمان! وتتدرج الأمة في التفلت حتى تقع في الشرك الواضح الصريح، سواء شرك الاعتقاد أو شرك العبادة أو شرك الحاكمية، ثم يظل الفكر الإرجائي يوهم الناس أنهم مازالوا بخير، ومازالوا مؤمنين!
ولنتخيل مدرسة يحضر إليها الطلاب للدراسة، ثم بعد حين يتفلتون من استذكار دروسهم، ثم يتفلتون حتى من حضور الدروس، ويقال لهم مع ذلك : لا بأس عليكم مادام كان في نيتكم أن تحضروا، وإنما تقاعستم عن الحضور كسلا لا جحوداً! ومادامت أسماؤكم مازالت موجودة في سجلات المدرسة ولم تطلبوا سحبها من السجلات!
هل يمكن إنجاز شيء في واقع الأرض بهذه الروح المتقاعسة المتواكلة التي تعيش في خدر الوهم وتحسب أنها على شيء حقيقي؟
فإن لم يكن يمكن أن يتم شيء على الإطلاق بهذه الروح، فهل يمكن أن يقوم الإسلام بالذات بمثل هذه الروح، وهو الذي نزل ليكون حركة شاملة تشمل الحياة كلها بجميع جوانبها وجميع مجالاتها، وتشمل الأرض كلها، والبشرية كلها، بقدر ما يصل الجهد، وبقدر ما قدر الله في سابق علمه؟
هل يمكن إزالة الفتنة التي هي عقائد فاسدة ونظم فاسدة وجيوش تحمى العقائد والنظم الفاسدة، بمجرد التصديق والإقرار؟ هل يمكن إزالة الفتنة التي تقع على البشر في الجاهلية، بسبب الجاهلية ذاتها، بغير جهاد في واقع الأرض : {وقاتِلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كُلُّه لله}(الأنفال : 39).
إن هذا المرض بالذات -مرض الإرجاء- إن أصاب أية أمة من أمم الأرض، فما كان ينبغي أن يصيب أمة الإسلام، التي أخرجت للريادة، والشهادة على كل البشرية : {وجاهِدوا في الله حقّ جهادِه هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكُون الرّسول شهيداً عليكم وتكُونُوا شُهداء على الناس}(الحج : 78).
üüüüüüüüü
ثم جاء الفكر الصوفي على خط مواز للفكر الإرجائي، وإن كان على نحو آخر..
الفكر الإرجائي أخرج العمل كله من مسمى الإيمان، أما الفكر الصوفي فقد ركز على نوع واحد من العمل، وأخرج سائر أنواعه من مستلزمات الإيمان. ركّز على العبادة بمعناها الضيق المحصور في الشعائر التعبدية والذكر، وأهمل من أنواع العبادة عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وكلهامنصوص عليها نصّا واضحاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم : {الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(الحج : 41)، {فليُقاتل في سبِيل الله الذين يشرون الحياة الدّنيا بالآخرة}(النساء : 74)، {وليُمحص الله الذين آمنُوا ويمْحق الكافرين، أم حسبتُم أن تدخُلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعْلم الصّابرين}(آل عمران : 141- 142)، {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامْشُوا في مناكِبها وكلوا من رزْقه وإليه النّشور}(الملك : 15)، {هو أنشأكم من الأرض واستَعْمركم فيها}(هود : 61).
إن الذكر مطلوب، ولا عبادة بغير ذكر، ولكن الذكر الذي وصفه الله في كتابه، ووصف به الصحابة رضوان الله عليهم في قوله تعالى : {الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم}(آل عمران : 191). شيء آخر مختلف عن هذا الذكر الذي ابتدعته الصوفية، وحصرت العبادة فيه، وزعمت أنه هو هو الذي يوصل إلى رضوان الله، فضلا عما وقع في عقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود من شرك صريح.
وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى تفشي الفكر الصوفي، وجعلته في وقت من الأوقات هو مدخل العامة الوحيد إلى الدين أو مدخلهم الرئيسي إليه، فقد أحدث هذا الفكر مفاسد كثيرة في بنية الأمة، ليس أقلها التواكل، وترك الأخذ بالأسباب، وإهمال عمارة الأرض، والانحراف في عقيدة القضاء والقدر، وعدم إحساس الإنسان بمسئووليته عن خطئه حين يخطئ، والانصراف عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفصل بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة في حس المسلم، وإفساد التوازن الدقيق الجميل الذي يحدثه الإسلام الصحيح في النفس، فيجعل الإنسان يعمل بجهده كله في واقع الأرض، وقلبه معلق بالله واليوم الآخر، أو بعبارة أخرى التوازن الدقيق بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
ذ.محمد قطب
————
(1)قال عليه الصلاة والسلام : >بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ<.