لن تنهض أمة شعبها خائف من حكامه لا يقدر على الصدع بالحق ولا تغيير المنكر الذي يعيث فساداً في أوساط مجتمعه وخلال شوارع مدينته وأزقة حيه ودروب حومته ومسالك قريته ومكاتب إدارته بل وفي عقر بيته وشاشات تلفازه وداخل مساجده. ربته أسرته على الخوف من بطش حكامه وقهر شرطته وظلم قضاته فأحاطته بالخوف منذ ولادته وخلال طفولته وشبابه وهي توصيه صباح مساء بأن يلوذ بالصمت وألا يسيء الظن ويفر من الشهادة بالحق ويبتعد عما “لايعنيه” من أمر أمته ودولته بل وحيّه، فكبر النشء على النظر فقط إلى ذاته وأقرب أقاربه ويفهم مما “لا يعنيه” التخلي عن كثير من فروض الكفاية وواجبات اجتماعية وتطوعات ومبادرات إنسانية حتى لا يبقى له من مجال “يعنيه” سوى خويصية نفسه وأقرب الناس إليه، وقد لا يشمل اهتمامه أشقاءه وأعمامه أو أخواله،أما المجتمع ابتداءً من الجيران الموصى بهم شرعاً إلى أطراف المدينة أو القرية بلْهَ الوطن كله فليغرقهم الطوفان.
وهكذا ينشأ أبناء هذا المجتمع على حب النفس والأثرة المقيتة والخوف من السلطان دون أن يكون له نحوه لا محبة ولا ولاء، أو الاهتمام بقضايا وطنه وأمته وإخلاصه لها لأن الحكم من جانبه لا يعنيه من مواطنيه ورعيته إلا الطاعة العمياء لأمره والبعد عما نهاه عنه، فإن هو تجاوز الحدود وحاول اختراق ما أوصاه به آباؤه والجدود فالسوط بالمرصاء وسوقه إلى محاكم الظلم بالأصفاد وقد يُختطف من بين ذويه وبنيه أو أمه وإخوته وأبيه.. وهذا النوع من الحكم لم ينشأ في عالم التخلف إلا ليرسخ “تربية الخوف” و”ثقافة” الهلع من الحكام والأقوياء الذين جاء معظمهم زبانية من المعسكرات والقشلات ليصبحوا “القادة الملهمين” والعباقرة المُبدعين و”المجددين المعصومين” وقد حقق حكمُ “العسكر” ولو كا نوا بلبسة مدنية أكبر الكوارث التي أصيبت بها الأمم المنكودة الحظ والشعوب المشؤومة المصير، لذلك فحياتنا آمال شاحبة وأمانٍ خائبة ويأس مُطبق وظلام مُحدق وسخط “صامت” ورواج أخلاق الانتهازية والرشوة والوساطة واختلال موازين العدل وإسناد الأمر إلى غير أهله والرغبة في مفارقة الوطن طلبا للرزق وكراهة البقاء في ظل حكم لا يُؤمن شرُّه ولا يُرجى خيرُه وانتشار أنواع من الفساد وتأجير أهم ركائز البلد بل وبيعها، وتدهور قيمة العملة وتنشيط التهريب وإرهاق كواهل الفقراء بالإتاوات والضرائب المباشرة وغير المباشرة والفوضى في البناء والتبذير في النفقات والتدهور للاقتصاد وتمتع الكبار بحقوقهم التي أسندوها لأنفسهم والإخلال بواجباتهم ومطالبة الضعفاء بجر قطار دولتهم وحدهم.
إن أهم ما تعانيه هذه الشعوب المسكينة وما جنته هذه التربية السيئة والسلوك المشين هو أن أوطاننا تفتقر إلى مواطنين في المستوى المطلوب إذ ليس لهم الشجاعة ولا الشعور بالحرية مما يجعل منهم حراس دولتهم وأرضهم ومجتمعهم، فهم شعوب لا تبالي بقضايا الأمة ومصالحها العليا كما ليس لها اهتمام بتغيير الفساد ومحاربة مظاهر الانحطاط وليس عندها أي غيرة على المصالح العليا بل معظم هذه الشعوب لا تفكر إلا في مصالحها العاجلة ومنافع أفرادها الشخصية.
وفي مثل هذه المجتمعات يتفرعن الطغاة ويتعملق الأقزام وينتشر البُغَاثُ ويتَعالم الجهال… ويبدأ السقوط.
د. عبد السلام الهراس