من الخطط التي تعتبر إفرازا حضاريا للأمة الإسلامية وعنوانا لوجودها،خطة الحسبة. التي عدها الفقهاء من الوظائف الشرعية التي لا يصلح حال الأمة إلا بها،وكان يضطلع بها محتسبون يسهرون على تنظيم الشأن العام للأسواق وينبهون على مختلف العمليات التجارية التي لا تحترم المقاييس المعمول بها على مستوى جودة المنتوج وكل ما من شأنه أن يلحق ضررا بالمشتري،وفي هذه المقالة سنحاول رصد مهمتين قلما ينتبه إليهما عند الحديث عن المحتسب ودوره، وهما عملية تنظيم عبور الأنهار،ومسألة تنظيم بيع السمك في السوق.
1- المحتسب وتنظيم عملية عبور النهر.
لم تكن عملية عبور الأنهار لتتم دون أن تثير العديد من المشاكل التي عرضت على الفقه الإسلامي، فتدخل الفقهاء لحلها مصدرين عدة فتاوى تولت تنظيم عملية العبور، وتبين الحق للأطراف المتنازعة مما يجعلنا نستنتج حقيقة مفادها أن عبور الأنهار واستخدامها في الملاحة الداخلية لم تكن عملية بسيطة بل كانت على جانب كبير من التعقيد،وقد خضعت لمراقبة المحتسب وأعوانه الذين كانوا يتولون الإشراف على هذه العملية، خاصة فيما يتعلق بشحن المراكب من قبل “المعدين” الذين عليهم أن لا يبالغوا في شحن المركب فوق ما لا يطيق “لأن ذلك موضع غرر وهلاك، ولا سيما في يوم عاصف من الريح ولا تكون دولة بينهم في الإشحان، فإن ذلك فساد ودعاية إلى كثرة الأثمان”(1).
ويؤكد ابن عبدون أن عملية جواز النهر يجب أن تتم في سلام لأن أرواح العباد أهم من كل شيء ومن ثم وجب توفير القوارب أو ما سماهم “بالمعديات” الكافية لتسهيل هذه العملية، خاصة في الوقت الذي تشتد فيه الرياح ويرتفع منسوب المياه في الوادي(2). أما إذا كانت الظروف الطبيعية عادية ففي هذه الحالة فإن “المعدين” كانوا يشتغلون على متن قارب واحد، مما يجعلنا نتساءل عن عدد العابرين لنهر إشبيلية في اليوم الواحد، وهل كان هذا القارب كافيا ليؤمن هذه العملية؟
رغم أننا لا يمكن أن نحسم برأي حول عدد الأشخاص الذين كان بإمكان القارب أن يحملهم خاصة ونحن نعلم أن مصادرنا التاريخية والجغرافية تعاملت مع السفن وأسمائها على قدم المساواة، كما أنها لم تحدد لنا أرقاما صريحة يمكن الاطمئنان إليها، ومع ذلك يمكن أن نعتقد أن القارب أو القاربين في الحالة المضطربة للوادي كانا كافيين لتأمين عبور الناس.
وفي موضع آخر فإن ابن عبدون يشدد على المتولين لعملية الجواز أن لا يمكنوا بعض العناصر التي يعرف أنهم يعتدون على أملاك وغلات غيرهم، ولا يمكنوا الذين ظهر فسادهم: شارب الخمر وأصحاب المفاسد من المركب سواء للعبور أم للنزهة(3).
أما بخصوص جانبي الوادي أو على الأقل المكان الذي تتم فيه عملية الجواز أو إصلاح المراكب، فإن ابن عبدون خصه بوقفة خاصة فرضتها المصلحة العامة للدولة، فأكد على حماية هذه المنطقة من البناء فيها أو بيعها أو إخضاعها لعملية تقسيم بين الورثة، ولو تعلق الأمر بشبر واحد، فلا يجوز لصاحب المواريث أن يبيعه(4). وألحق هذه الأمكنة بالدولة وجعلها ملكا للسلطان ولاحظ فيها لأحد من ناحية الملكية، لأن هذه المنطقة متوقف عليها أمر الداخل والخارج( التصدير والاستراد) التي تشرف عليه الديوانة وتدر عليها أموالا طائلة، ومن ثم لا يجب أن تكون تابعة لأحد سوى السلطان، وأن يتولى المحتسب وأعوانه تسييرها وتنظيم حركتها.
ولما كانت الأنهار تمر بأراضي في ملكية أشخاص بعينهم فإن عملية عبورها كانت تطرح عدة مشاكل، وهو ما تكشف عنه عدة فتاوى وردت في المعيار، أهمها فتوى تتعلق بمالك لأرض على ضفة الوادي صنع مركبا وأخذ يجوز الناس إلى الضفة الأخرى فاعترض السلطان على ذلك بدعوى أن النهر يدخل في ملكية السلطان(5)، وكما مر بنا مع ابن عبدون فإن المكان الذي تنظم فيه عملية العبور وإصلاح السفن واستقبال التجارة، هو الذي يكون تابعا للسلطان، وما سوى ذلك يكون ملكا لأصحابه، فأجاب القاضي أبو عبد الله بن الحاج أن النهر بمنزلة الطريق فلا يمنع أحد من “الاتفاق بالنهر” فيكون لصاحب الأرض الحق في تجويز الناس إذا كان مالكا للضفتين معا، و إذا كان مالكا لواحدة فقط، ففي هذه الحالة وجب عليه طلب موافقة صاحب الضفة الثانية(6).
2- المحتسب ودوره في تنظيم بيع السمك في السوق.
كان يجري إعداد السمك وطهيه وتناوله في محلات خاصة، عادة ما تكون في الأسواق التي يختلف إليها الناس للبيع والشراء، ليجدوا في أطباق السمك التي يعدها طباخون قد احترفوا هذه المهنة خير أكلة لهم في السوق، ونلمس من خلال ما أورده أحمد بن عبد الرؤوف في مصنفه نوعا من التجاوز الذي كان يقع فيه “القلاوون”، وقد نبه المحتسب أن يأخذ كامل احتياطه من هذه الفئة، وينبههم أن لا يتاجروا ولا يطبخوا إلا الجيد من السمك، ويلزمهم أن لا يخلطوا البائت من السمك بالطري(7)، كما أنهم يمنعون من تمليح السمك البائت لأن في ذلك مضرة بالمستهلكين ولا يملحون إلا الطري منه، ويؤكد عليهم أن يبالغوا في تنظيف السمك وتنقيته. وإذا كان لا مفر من استعمال الزيت كمادة رئيسية للقلي فإنه لا بد من استعمال الأنواع الجيدة من الزيوت “ولا يقلوه بزيت رديء ويجتنبوه وينهون عن كثرة الدقيق الذي يلث فيه الحوت عند القلي”(8).
ويحرص القلاوون أن لا يعمدوا إلى غمس الحوت المقلي في الماء والملح بغية تزيينه للناظرين فيما يعرف بـ”الشرمولة” لأن ذلك وإن كان يلقى استحسانا عند المستهلك الذي يجمل في ناظره السمك المقلي، إلا أن ذلك تكون له نتيجة عكسية على المستهلك بما تسببه هذه الشرمولة من إثقال السمك في الميزان.(9)
وبالاضافة إلى كل هذه الآدب التي وجب على المحتسب أن ينبه عليها بائعي السمك- فإنه وحرصا منه على نظافة السوق ككل، وجب أن يعين لهؤلاء مكانا خاصا يتولون فيه التعاطي لمهنتهم، لأن اختلاطهم بباقي الحرف أو المحلات قد يسبب إزعاجا للمارة ولباقي التجار الذين يتأذون بتلك الروائح المنبعثة عن قلي السمك،والقلاوون ملزمون بضرورة تنظيف الساحة التي يشتغلون فيها ” ويمنعون عن طرح حوت البحر في الماء العذب فإنه يفسده”(10).
وتجدر الإشارة إلى أن عملية بيع الحوت لم تكن لتتم دون أن تثير العديد من المشاكل بين البائع والمشتري إذا ما تم الإخلال بأعراف البيع والشراء، ونسجل من خلال وقوفنا عند إشارة أوردها صاحب المعيار(11) أن بعض باعة السمك كانوا يعمدون إلى خلط الأسماك الكبيرة والصغيرة، فيضعون الأسماك الكبيرة في الأعلى والصغيرة في الأسفل لاستغفال الزبون الذي ما أن يكتشف العيب حتى يقوم بالمطالبة بإلغاء البيع، فيتدخل الفقه في شأن هذه النازلة فيفتي الفقيه “ما كان من ذلك -السمك- قريبا بعضه من بعض لم يرد، وما كان من ذلك بائنا مثل أن يجد في قاع العدل الحوت الدون المخالف للحوت الذي في أوله خلافا بينا فإن ذلك عيب يرد به”(12).
وهكذا فإن هذه الإشارات التي تطرقنا إليها تبين الدور الكبير الذي كان يقوم به المحتسب في حماية المستهلكين لمختلف أنواع السمك والعابرين للأنهار حتى لا يقع هلاك لناس من شراء جشع بعض التجار الذين قد يطغى عليهم حب الربح ولو على حساب المستهلك،وما أحوجنا إلى إحياء مثل هذه الخطط التي تجسد عدل الشريعة الإسلامية ورحمتها وتقديرها للإنسان وحياته.
————
1 – ابن عبدون، ثلاث رسائل في الحسبة، جمع بروفنصال ،القاهرة،1955 ،ص: 29.
2 – نفسه. // 3 – نفسه. // 4 - نفسه، ص: 30.
5 - الونشريسي،المعيار المغرب..، تحقيق.جماعة،طبع وزارة الأوقاف،د.ت،م. س، ج8، ص: 407.
6 – الصفحة نفسها.
7 – أحمد بن عبد الرؤوف، ثلاث رسائل في الحسبة، جمع بروفنصال،القاهرة،1955، ص:97.
8 - نفسه. // 9 – أحمد عبد بن عبد الرؤوف، م. س، ص:97.
10 – نفسه. // 11 – المعيار..،م.س،ج6،ص:176. // 12 – نفسه.