بقدر ما يكون السكوت والصمت طاعة، فإنهما قد يصيران معصية. وقبل معالجة هذه الحقيقة التي لا ينكرها عاقل، لابد من التمييز بين السكت والصمت لغة، فإذا كان السكت والسكوت والسكات هو خلاف النطق، فإن الصمت (بفتح الصاد)، والصمت (بضمها)، والصموت، والصمات (بضم الصاد)، أيضا هو إطالة السكوت، وعليه فالصمت درجة بعد السكت إذ يتميز الأول عن الثاني بالطول.
وأما سكوت وصمات الطاعة فهو ترك النطق بما يسخط الله عز وجل مصداقا لقول رسول الله (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) والمطلوب حسب سياق الحديث إطالة السكوت إذا ما تعذر قول الخير والسكوت والصمت ههنا من علامات الإيمان، والإيمان يدعو إلى الطاعة، وهو مع صاحبه في الجنة.
وأما سكوت وصمات المعصية فهو ترك النطق بما يرضي الله عز وجل أو بما يجب النطق به عملا بأمر إلهي وفق قاعدة (الساكت عن الحق شيطان أخرس) فالسكوت ههنا وهو مجرد ترك النطق يحشر صاحبه في زمرة الشياطين، وأما الصمات الذي هو إطالة السكوت فلا شك يبوأ صاحبه مقعد الشيطنة بامتياز. وما سمي الشيطان شيطانا إلا لفعاله الشنيعة، ولا غرابة أن يكون السكوت والصمات عملا شنيعا من سنخ عمل الشيطان خصوصا عندما تقتضي الضرورة نطقا يحق حقا ويبطل باطلا من قبيل كتمان شهادة توجب الإثم بنص قرآني صريح وهو قوله تعالى: “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه”.
إن إثارة موضوع السكات والصمات في هذا الظرف العصيب من ظروف الأمة الإسلامية ذات القروح أصبح ملحا لأنه صار من المنكر الواجب تغييره،ولما كان تغييره بالقلب عبارة عن صمت وسكوت فإنه لا مندوحة عن ترك أضعف الإيمان إلى ما سواه من نطق أو ما يسد مسده من كتابة. لقد أصيبت أمة الإسلام وولاتها وأئمتها بداء الصمت، وهو طول السكوت على ما يلقونه من ذل حتى صح أن نسمي أمة الإسلام أمة مصمت (بفتح الميم وسكون الصاد)، وهي صفة يوصف بها من اعتقل لسانه واحتبس كلامه. لقد حازت أمتنا في هذا الزمان ما تقتضيه دلالة صيغ المبالغة من فعل السكوت والصمات، فصارت سكيتة صميتة، وصار كل زعيم فيها ساكوتا وسكتيتا بل أطال الواحد منهم السكوت فصار صميتا أيضا. وحازت الأمة وولاتها صفة الخرس مما حشرهم في سلك الشيطنة بامتياز. ومن السخرية أن تشير الأمة بأصابع الاتهام إلى ولاة أمورها في شأن جريمة السكات والصمات مع أنها أمة صموت دون أمم الأرض. وإذا كان من نافلة القول ومكرور الحديث جرد جرائم الصمت والسكوت الشائعة فينا فعسى أن يكون في ذكرها نفع ينفع البقية الباقية من المؤمنين وإلا فسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
لقد بدأت جريمة السكات أول ما بدأت بصمت عن تغييب شرع الله عز وجل في حياتنا حتى حذونا حذو الكافر والمشرك من يهود ونصارى وعلمانيين في كل أحوالنا مما بوأنا جحر الضب نشتم نتانته بنشوة كنشوة ناشق الرياحين من شدة الذل المهين. واستمرت جريمة السكات بعد ذلك عن أمور منها ضياع أقدس المقدسات وعلى رأسها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وضياع أكناف القدس وما والاها من أراضي المسلمين. وتواصلت جريمة الصمات على جثوم الاحتلال على صدر أرض الإسراء والمعراج لأزيد من خمسة عقود، وعلى تسويات الذل والهوان المتناسلة حتى تحولت الأرض السليبة إلى مشاريع خرائط لا تتعدى الأقوال في المحافل لذر الرماد في العيون من أجل عمايتها عن ضياع أرض كنا نملكها قبل خمسين سنة ومنذ قرون. وتواصلت بعد ذلك جريمة الصمات عن غزو باق بلاد المسلمين كأفغانستان والعراق واحتلالهما عنوة أمام صمت علمتنا إياه المحافل الدولية من قبيل مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة. وتوالت بعد ذلك جرائم الصمات على القتل والتدمير ومختلف الجرائم حتى جاءنا الإذلال في أبشع صوره فأحييت فينا عادة قوم لوط وجرائم الفرعون في الاستحياء الذي طال ذكورنا فضلا عن إناثنا نظرا لشراسة فراعنة هذا الزمان الذين فاقوا الفرعون الغابر بوقاحة جعلتهم يشيعون جرائمهم فينا عبر الأنترنيت في ربوع عالم صيره الإعلام قرية صغيرة، نكاية بالأمة ذات القروح. واستمرت جرائم الصمات من الأمة ومن ولاة أمورها فشملت كل الآفاق من تعليم وأحوال شخصية وتدين وحتى الملبس والمأكل والمشرب…، ونحن نستزيد المزيد من الذل والهوان من عدونا بمازوخية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. ومن المؤسف حقا أن تخرج فئات من أبناء العدو عن صمتها مستنكرة جرائم حكامها فينا -سواء صدقوا في ذلك أم كذبوا- ويلجم الصمت ألسنتنا حكاما ومحكومين حتى صدق علينا قول شاعرنا الحكيم: (ومن يهن يسهل الهوان عليه).
ومشكلتنا التي لا حل لها أنه ليس للهوان حدود، وأنه لا حد فينا للصمات والسكات ولا حول ولا قوة إلا بالله.