قدم الأستاذ عبد الحميد أبو سليمان رئيس المعهد العالمي للفكر الاسلامي محاضرة تحت عنوان : “البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة” نظمتها جمعية العمل الاجتماعي والثقافي فرع فاس بمقر رابطة علماء المغرب بفاس، ولأهميتها ننشرها كاملة
المعهد العالمي للفكر الإسلامي نشأ من أجل أمر معين، نحاول من خلاله أن نعلم وأن نتعلم ما ذا أصاب هذه الأمة، ولذلك نبحث به وفيه عن أسباب علتنا.
الأمة الاسلامية نعلم ماذا كانت، وماذا قدم الإسلام للإنسانية وما يمكن أن يقدم لها، ومع ذلك تبدو أمة الإسلام وكأنها جسد هامد. فمحاولات الإصلاح في الأمة لها أكثر من ألف عام على الأقل، في صرخة أبي حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”، و”تهافت الفلاسفة” أي أن المعرفة الاسلامية بشقيها، الديني والعقلي في أزمة، وبعد ذلك توالت حركات الإصلاح بكل أنواعها على مدى ألف عام، كلها أفادت الأمة بشكل أو بآخر، ولكنها لم تستنهض الأمة، والسؤال الذي يجب أن يلح على المفكرين والمثقفين. لماذا؟ ما هو الأمر الناقص؟ وهو ما تدور حوله رسالة المعهد، ورسالتنا وجل ما يدور حوله المفكرون، المعهد بدأ بفرضية بسيطة، أن الأمة لا تنقصها المواهب سواء كانت مادية أو بشرية وأن الأمة لا تنقصها قيم وأهداف سامية، فالاسلام بذلك كفيل، ولكن الأمة في حال سيء، فكيف تجتمع هذه العوامل مع بعضها البعض؟ هذه المعادلة لا تحل إلا إذا أضفنا إليها زائدا، وهو الإجابة عن السؤال الذي يجب أن نسأله أنفسنا، ما هو التفكير الغلط؟ ما هو هذا الخطأ؟ ما هو هذا العطب الذي أصاب عقل أمتنا؟ كيف نشأ؟ متى نشأ؟ لماذا نشأ؟ وكيف أثر في مسيرة الأمة التي يفترض أن تكون خير أمة أخرجت للناس لتنتهي إلى الحال المزري الردئ الذي هي فيه؟
ويجب ألا يتوقف التفكير إلى أن نجد الإجابة، ونعلم التشخيص ونبدأ العلاج.
في هذا أَلْفِتٌ النظر إلى قضية أساسية ـ فيما يخص الحركة الاصلاحية الاسلامية ـ أي حركة إصلاحية لها جوانب عديدة، من أهمها السياسي والفكري، وطبيعة السياسي أنه يحاول أن يجمع الناس ويثير فيهم الأمل ويدفع بهم إلى العمل، ويقدم نفسه على أنه الحل للمشكل، والفكري هو عكس ذلك، هو الذي ينظر في النواقص، والذي يوجه النقد والذي يحاول أن يستدرك، وأن يبين وجوه العيب لذلك السياسي يضيق بالفكري، ولهذا وجب حدوث التوازن بين الاثنين، لأنه إذا خيم اليأس فهذا يضر، وإذا انعدم الفكر فهذا يضر. والأمة في الحالة التي هي عليها بالدرجة الأولى ليست في حال المواجهة السياسية، لأنها في حالة ضعف، والمعارك السياسية تستنزفها، السياسي في هذه المرحلة من حياة الأمة مهمته أن يحمي نمو طاقات الأمة، فإذا نمت طاقتها، أمكنها أن تقف، أمكنها أن تصبح ندا، أمكنها أن تحل مشاكلها.
فإذا أنبه إلى هذا، وكثيرا عندما أتحدث يرى البعض أن هذا يلمس الجانب المؤلم وبعضهم يدعوه تشاؤما، وهذا يذكرني بمن أصابه مرض فيقول له الطبيب أنت لديك المرض الفلاني. فيقول له يا طبيب أنت متشائم. يا سيدي أنا لست متشائما ولا متفائلا، إنه مرض يحتاج إلى علاج، فهي محاولة لفهم المرض.
الأمة، في الواقع تنبهت إلى الجانب الفكري وتحاول فيه، ولكن فكرها لا يستطيع أن يصل إلى أعماق أزمتها، لأن الثقافات بطبيعتها، تحاول أن تحمي نفسها بوسائل تمنع المساس بجذورها والاقتراب منها، أضرب لكم مثلا : في الحضارة الهندوسية، يوجد الآن حوالي ستمائة مليون ممن يسمون بالمنبوذين، والمجتمع الهندوسي ينقسم إلى طبقات، أعلاها البراهمة، وأدناها المنبوذون.
والمنبوذ حاله أسوء من حال الحيوان، إذا وقع ظله على الرجل البرهمي ينجسه، سؤال كيف يمكن لستمائة مليون نسمة أن يقبلوا هذا الوضع المهين اللإنساني. لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن ترغمهم على ذلك، ولكن هم أنفسهم راضون بذلك، لأن فكر الهندوك ينبني على تناسخ الأرواح، وأن كل شيء يوجد نتيجة ما يستحق فإذا أساء فإنه يولد مرة أخرى في شكل أسوء، وإذا أحسن يرتقي إلى أعلى إلى أن يلتقي مع النرفانا أو الوجود الأسمى. فهو عليه أن يقبل ويخضع، فهو الذي يخضع نفسه.
إننا حينما نفكر في مشاكلنا، في الغالب ليس لدينا الشجاعة لكي نحاول أن نفهم، ماذا حدث وكيف حدث، وكيف يمكن أن نواجهه كحيوانات السرك، فمن شدة ما يصاب بالإرهاق النفسي، ينكر طبيعته، فيظهر الرجل وفي يده الأسد والأسد لا ينقض عليه، لأنه أصيب بحالة إرهاب نفسي. فعلى المثقفين والمفكرين أن يكون لديهم من حدة النظر ما يقوون به شجاعة أنفسهم لمعرفة الداء، وبالتالي محاولة وصف الدواء.
ما وصلت إليه أن لدينا مرضين، مرض أصاب الفكر، ولدينا فيه إدراكات ومحاولات تحتاج إلى تعميق، الأدهى من ذلك أنه ترتب على الثقافة الملوثة، وأمراض نفسية وبالتالي لا نتنبه إلى هذه الأمراض النفسية، لأننا حتى ندرك طبيعة المرض الفكري، أونتعرف على وجوه الصحة فيه، ليس بالضرورة أننا نفعل مايجب لأن الفعل يعود إلى الناحية الوجدانية والنفسية، لا يعود فقط إلى الناحية الفكرية، كثيرا ما نعلم ما هو صواب ولا نفعله، وكثيرا ما نعلم ما هو خطأ ونفعله لأن الوجدان لا يتجاوب مع القضية الفكرية، ولذلك الرسول قال : “خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا”. ليس الفرق بينهم في أنهم أسلموا، الفرق في بنائهم النفسي. فمن كان بناؤه ضعيفا في الجاهلية سيبقى ضعيفا وهو مسلم، ومن كان قوي النفس، سيبقى قويا، ولذلك كان الرسول يدعو أن ينصر الله الاسلام بأحد العمرين. وبالفعل كلا الرجلين كانا قوي النفس. ذاك كان بطل الجاهلية، والآخر كان بطل الاسلام.
ونحن كثيرا ما نتحدث، ونقول يجب ويجب ويجب.. ثم ننتهي إلى الجملة المعهودة، ولكن تنقصنا الإرادة، ما هي هذه الإرادة؟ كيف نحصل على هذه الإرادة. من أين نستوردها؟ هذا البعد أعتقد هو البعد الغائب في فكر الأمة.
دعوني أستعرض معكم بسرعة ما ذا ألم بفكر الأمة، لنتبين كيف نشأت لدينا الأمراض النفسية التي تجعلنا ينطبق علينا قول الله سبحانه وتعالى {ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} نقول ولا نفعل.
-يتبع-