لقد استطاع المسلمون منذ اعتنقوا دينهم الحنيف أن يتبوأوا مكانة رفيعة في العالم، بفضل استيعابهم لتعاليمه، وتشبعهم بقيمه، والتزامهم بأوامره ونواهيه، وتمكنوا من بناء حضارة إنسانية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، لأنها قامت على مبدأ التوازن بين المادة والروح، واكتسح المسلمون أرض الله شرقا وغربا بما طبع سلوكهم الدعوي من سماحة وانفتاح، وتقبل للحوار والجدل، والتنكب عن التعصب والتشنج، فارتفعت راية الإسلام، وترددت كلمة الله في ربوع الأرض، وأصبح المسلمون قوة كبرى، وغدت الكلمة الأولى لعلمائهم الذين تخصصوا في مختلف مجالات المعرفة، وأرسوا دعائم المنهج العلمي القويم الذي استنارت البشرية بأنواره الساطعة، واهتدى الناس بمهيعه المنضبط المرتبط بمرجعيته الربانية الصافية الخالدة، وانعكست إيجابيات ذلك على مختلف المجالات الحياة، ففشا الأمن والاستقرار في نفوس الأفراد و الجماعات، وساد الرخاء وعمت الأخلاق، و ازدهر الاقتصاد، وعمت الحرية الفكرية والسياسية، وترسخت فكرة البناء والتشييد، وقويت الرغبة في الارتقاء والتقدم، ومعالم حضارتهم شاهدة على ذلك، عمرانيا وفكريا، ماديا وروحيا.
وإذا كانت الدعوة الإسلامية قد لقيت نجاحا باهرا لم يسبق له مثيل، ولن يكون لها نظير، فليس فقط لأنها نزلت في بيئة هشة متهرئة متخلفة فاقدة للعناصر الضرورية لحياة الإنسان فكريا واجتماعيا واقتصادياكما ذهب إلى ذلك كارل ماركس في تعليله لنجاح الإسلام الباهر في الانتشار والتمكن في نفوس الناس، بل يرجع الأمر قبل ذلك وبعده أيضا إلى طبيعة الإسلام ومقوماته ومنهجه وأهدافه و ربانيته، وقد تمثل الرعيل الأول من المسلمين ذلك كله فوضعوا الأمور في نصابها، وأنزلوا الناس منازلهم، وصدروا عن حقيقة الدين وروحه الصافية في سلوكهم ومعاملاتهم، في واقعهم وتطلعاتهم المستقبلية.
ثم كان ما كان مع توالي الزمن من تراخ وتقاعس، وانشغالات بالهوامش، وإضاعة للأولويات، وإسناد الأمور إلى غير أهلها، وانتشار الدعاة غير العلماء الذين غيبوا العلماء أو حجبوا العلماء الدعاة، وتوالى التواضع الداخلي، وازدادت التربصات الخارجية، فانفلت الزمام من يد المسلمين تدريجيا، وأسلموا قيادهم طوعا أو كرها إلى غيرهم، وتفرقوا شذر مذر، وتشتتت كلمتهم ولم يعودوا قلبا واحدا، ولا جسدا واحدا إذا أصيب منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وبعد غفوة الصدام بين الشرق والغرب حاولوا أن يلملموا شتاتهم، ويستعيدوا ذاكرتهم، ولكن يبدوا أن الصدمات كانت أقوى منهم فاستمرت تداعياتها وآثارها طويلا.
واليوم وقد كثر الحديث عن الصحوة الإسلامية الجديدة، وانبثقت معها الرغبة في مواجهة التحديات الذاتية الداخلية والموضوعية الخارجية، أخذت التساؤلات تتناسل، خافتة حينا، وعلنية حينا آخر، ولاسيما بعد الانتكاسات و الحملات المتوالية عليهم في عقر دارهم وخارجها، وإلصاق شتى التهم بهم؛ ماذا وقع للمسلمين اليوم؟ وماذا أصابهم؟ ولماذا هذه الحملات المتوالية عليهم؟وكيف يسترجعون كرامتهم ويحققون ذاتهم مرة أخرى؟ وهل بامكانهم بعد ما حدث أن يحددوا أهدافهم بأنفسهم؟ أم أنهم غدوا مسيرين خاضعين لما تمليه شعارات العولمة والتوجهات الاقتصادية التي تحكمها؟ وهل يعرف المسلمون اليوم وهم تحت تأثير الصدمات المتوالية بالضبط ماذا يريدون؟وهل استرجعوا قدرا من الوعي الذي يسمح لهم بمعرفة ما يراد بهم؟…
إنها مفارقات عديدة تقترن بتساؤلات لا تنتهي، ولكن الأمة لا تخلوا من مصابيح يحملها العلماء الصادقون وأولوا الأمر المخلصون لتحديد المتطلبات والوسائل والأهداف، وضبط الأولويات والضروريات.
ولاشك أنه بممارسة قدر من النقد الذاتي يمكن الاهتداء إلى سبل الخلاص، على الرغم منصعوبة المهمة في الظروف الراهنة، ولكن ذلك ليس بعزيز على هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، وما خُذل قوم نصروا الله، لأنه آلى على نفسه نصر من ينصره، مصداقا لقوله عز و جل: { إن تنصروا الله ينصركم}