إن الزي الذي تختاره المرأة لنفسها دليل واضح على الدور الذي تريد تمثيله في المجتمع” مالك بن نبي : شروط النهضة ص 117.
المتأمل في الأحداث المتسارعة التي تعرفها الساحة الدولية وتأثيرها على ماهو محلي أو إقليمي يلاحظ ـ دون عناءـ دخول العالم في صراع جديد ـ وهذه المرة مكشوف ـ تذبح فيه القيم الأصيلة بحد السيف وتدك تحت “سنابك” الدبابات وحمم الطائرات و….
إنه صراع يتجدد أكثر ضراوة ويعيد إلى ذاكرة من بقيت له ذاكرة، محطات حرجة من تاريخ الأمة الاسلامية في صراعها مع الكفر والهمجية والبربرية، فعندما حاصر هولاكو بغداد، أرسل المستعصم وزيره ابن العلقمي للتفاوض مع رمز الشر، فخانه، فكانت مذبحة رهيبة ذهب ضحيتها الخليفة وعائلته وكثير من الخلق، علاوة على تراث الإسلام الذي تغيرت بمداده مياه دجلة والفرات، إنه هجوم قيم التوحش والبربرية التترية المالكة لأسباب القوة والمنعة على قيم الحضارة والتمدن.. وبين هذه وتلك، عنصر الخيانة الذي مثله ابن العلقمي، فباع قيمه وتاجر بخليفته وأمته بعدما وعده هولاكو برئاسة “مجلس حكم انتقالي” يسير دفة حكم بغداد مسترشدا بالقيم الجديدة التي يبشر بها السيد الغالب.
ما أشبه اليوم بالبارحة، بالأمس كانت ذريعة الهمجية التترية تحرير بغداد من الظلم والاستبداد ونشر الرفاه بين الناس، واليوم : القضاء على الدكتاتورية والفردانية ونشر الديمقراطية وحقوق الانسان، إنه السيناريو نفسه يتكرر، مما يدل على أن أعداءنا أقدر منا على قراءة تاريخنا قراءة واعية.
وفي فرنسا طلع علينا “صديق العرب الأول” بخطاب قطع فيه كلام كل خطيب ليعلن صراحة حظر الحجاب حفاظا “على قيم العلمانية التي “تسوي” بين جميع الأديان والمذاهب و”الملل والنحل”. نعم إنها فرنسا، ملجأ الهاربين من جحيم أنظمة الفكر والسياسة المستبدة في بلداننا، فرنسا الإخاء والمساواة والحرية، فرنسا روسو ومونتسكيو، وزيادة في إتقان الإخراج والتمويه تم حظر القلنسوة اليهودية والصليب. ومما يؤكد أن المقصود بمشروع القانون هو الحجاب فقط، ما بثته بعض وسائل الإعلام الفرنسية من برامج حول الموضوع تحت شعار: “dévoile Chirac se”.
إن “القوم” جادون في سعيهم لنشر قيمهم ومحاصرة قيم الآخرين، وهذا “حقهم”، وقد توجت هذه السنة بالقبض على صدام حسين ليقدمه بوش إلى شعبه بمناسبة عيد الميلاد وعلى منواله نسج شيراك فحظر الحجاب، وهذا ليس غريبا، لكن الغريب حقا، أن ينوب بعض منا عن هؤلاء في تحقيق مشاريعهم في عقر ديارنا.
فالمرأة المسلمة ما زالت تعاني من المضايقات في مجموعة من الدول “الاسلامية”، وكلما ارتفعت درجة الضغط انتشر الحجاب أكثر وعضت عليه المرأة المسلمة بالنواجد، ففي عز الهجمة محليا وعالميا تطلع علينا المذيعة الجزائرية القديرة “خديجة بن قنة” بحجابها من خلال قناة الجزيرة فبهت الذي كفر.
وفي أرض الأزهر ارتدت 12 مذيعة الحجاب في رمضان الماضي منعن من الظهور المباشر وأجبرن على العمل خلف الكاميرا وكان مبرر رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بأن العقد كان معهن على شكل معين (دون حجاب) والعقد شريعة المتعاقدين؟ ونحن نسأل ـ مع من سأل ـ: ماذا لو أجريت لبعضهن عمليات تجميلية، فهل كان الموقف نفسه سيؤخذ؟
وتبدأ قصة الحجاب في التلفزيون المصري سنة 1970 مع المذيعة كريمان حمزة، وتجددت مع 5 مذيعات في القناة 5. أما تونس فتعتبر”رائدة” ليس في التضييق فحسب، بل في المنع والمعاقبة لكل من تخالف القانون المشؤوم الذي صدر منذ سنوات. كل هذا يحدث، في حين يسمح بالعري الفاضح والتهتك، لا بل أحدثت سلسلة من القنوات الفضائية تضاهي نظيرتها الأوروبية في نشر الرذيلة والفسق والفساد في الأرض، فالذي لا تطاله يد الجاني الغربي، تطاله يد الجاني المحلي.
وقد عكس مقال نشر بإحدى الاسبوعيات المغربية “الجديدة” في عددها العاشر أزمة العلمانية المتطرفة في بلداننا؛ إنه مقال صدىً لما سبق الحديث عنه من تكلف البعض عناء خدمة “الأغراب”. وهذا يذكرني بما كنا نردده أيام الطلب في الجامعة من أن أحد رموز اليسار رحمه الله عندما كانت تسقط الأمطار في موسكو كان هو يضع المظلة في الرباط (على سبيل النكتة السياسية). يقول صاحب “المقال” أن الحجاب أصبح نوعا من “الراحة النفسية في وضع اجتماعي واقتصادي مسدود الآفاق” وما درى صاحبنا أن الحجاب “اجتاح” كثيرا من بيوت الموسرات ومن زوجات وبنات الأغنياء، وصاحبات أعلى المناصب في الشركات والجامعات والمعاهد و… وكل مواطن العلم والثقافة و”التنور” وهو مصطلح يعجب صاحبنا كثيرا، لذلك فهو يتحسر على مجموعة من المؤسسات “التقدمية” التي غزاها “ظلام” الحجاب، فيقول : >حضرت مرة في حفل للأطفال، هؤلاء الصغار كانوا يلبسون أقمصة صيفية جميلة، يغنون ويلعبون… والكبار، المشكلة يفعلها الكبار، كانت غالبية الأمهات تضع خرقا على رؤوسهن في عز الصيف والصهد. مدرسة حداثية تقدمية يعرف فيها أطفال التمهيدي قصة “حلزون بورغون” الفرنسي وحكايات بينوكيو الإيطالي بينما الأمهات يركبن موضة الممثلات المصريات التائبات؟؟<.
ياله من تشخيص عجيب “لإحدى أمهات مشاكل العصر” بلغ به صاحبه أعلى درجات الابتكار في التوصيف السوسيولوجي “الحداثوي”، وما علم أن مشكلته الحقيقية هي أنه غريب بفكره وذوقه و… عن هذا المحيط الذي وجد فيه (المدرسة) التي مهما “تحدثت” و”تقدمت” تبقى جذورها مرتبطة بضمير ومرجعية هذه الأمة، رغم أنف بورغون وبينوكيو وروسو وفولتير… وكأنني به حضر الحفل “ليتلذذ” برؤية النساء بصورة مسبقة تخيلها في ذهنه، حيث يستطرد قائلا : “نساء الحرب العالمية الثانية ونساءمصر في سينما الخمسينات كن أكثر بهاء وإشراقا وأنوثة وإثارة من نساء اليوم”. لا غرابة في هذا القول ما دام صاحبه يتحدث بمنطق الغريزة : بهاء، إشراق، أنوثة، إثارة.. وكأنه لا يميز بين علبة ليلية ومدرسة تربوية.
ثم يختم بحديثه عن غنى الاسلام وتعدديته وهما جوهره الحقيقي منتقدا الفهم التبسيطي للاسلام الذي يركز على المظاهر ومنها الحجاب، إنه يريد غنى وتعددية على هواه، إسلام يسمح بنشر الرذيلة والفسق، وطمس معالم المعلوم من الدين بالضرورة.
إن المتأمل في تاريخنا الحديث، يجد كثيرا من “أبناء العلقمي” الذين خذلوا القيم الأصيلة لهذه الأمة العظيمة وساروا في ركاب العوْلمة والأمْركة والأوْربة وجميع صنوف التقليعات والموضات الفكرية والاديولوجية والسياسية التي تبشر بها الهمجية الجديدة التي تجتاح العالم، ساروا ـ شبرا بشبر وذراعا بذراع ـ طمعا في الحصول على ما حصل عليه ابن العلقمي أيامالمستعصم، وما دروا أن أبناء العلقمي يمثلون صفحة سوداء تمثل العار والمذلة يلعنهم اللاعنون كلما ذكروا، وتتنكر العقول والنفوس السليمة من انتمائهم لهذه الأمة.
مات ابن العلقمي وبقيت القيم الاسلامية معصومة تربط الحاضر بالماضي وتقف شامخة أمام البربريات والهمجيات لبناء المستقبل الموعود من الله ورسوله.
{وإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}. {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
محمد بنعيادي