نفحات – العلاقات المغربية الاسبانية


من تتبع سيرة العلاقات المغربية الاسبانية عبر التاريخ، ويتأمل طبيعتها، ويفتش خباياها، ويستقري أبعادها، ويفحص دعائمها، لا بد أن ينتهي إلى الاقتناع التام بأنها لا يمكن أن تكون إلا علاقات قوية وحسنة باستمرار، لأن ما يجمع بين البلدين أكثر بكثير مما يفرق بينهما، بالإضافة إلى ما بينهما من أواصر تاريخية عريقة، رسختها عوامل طبيعية وظروف خاصة وعوامل فكرية متعددة؛ فالمغرب يمثل بوابة اسبانيا ومعها أوربا نحو افريقيا، كما أن اسبانيا بوابة المغرب ومعه افريقيا نحو أوربا، وهذا العامل الطبيعي وحده كاف لتمتين العلاقات ومراعاة المصالح المشتركة، بالإضافة إلى انتمائهما معا إلى فضاء حوض البحر الأبيض المتوسط بتاريخه الحضاري الحافل وسجله الثقافي الفني، بل هناك جامع مهم كبير آخر، يتمثل في ذلكم التراث المشترك الذي يجمع فكريا بين أبناء البلدين، وقد توالت أجيال وأجيال على إنتاجه على أرض بلادهما الأندلس المسلمة، وتم خلال قرون تشييد عدد من المعالم الأثرية الاسلامية الشامخة التي لا تزال شاهدا حيا على ذلك الماضي المجيد، وقد غدَتِ اليوم موردا ماليا رئيسا لاسبانيا التي تتبوأ المداخيل السياحية فيها الدرجة الأولى بفضل تلك المآثر وذلك التراث المشترك.

ويشترك سكان شمال المغرب مع أبناء اسبانيا في لغتهم التي يتقنها معظمهم من الكبار والصغار، وزادت وسائل الإعلام المرئية المسموعة من تقارب شمال المغرب وإسبانيا، كما أن عددا كبيرا من أبناء اسبانيا يتقنون العربية نطقا وكتابة، ومنهم من يؤلف بها، والمستعربون الإسبان خير نموذج لذلك، وذلك ما ساعد على فتح أقسام للغة العربية والحضارة الاسلامية في مختلف الجامعات الإسبانية، واستقبال الطلبة الاسبان وغيرهم من المهتمين بالتراث الحضاري الأندلسي الذي يعد من أهم الأواصر التي تجمع بين البلدين، ونتج عن ذلك تزايد في أعداد الباحثين الذين يقبلون على إعادة قراءة هذا التراث واستلهامه، وكم يكون مفيدا لو تم توظيفه في إذابة ما قد يشوب العلاقات المغربية الاسبانية بين الفينة والأخرى.

ومن نتائج ذلك أيضا تزايد عدد الاسبان الذين اعتنقوا الاسلام عن طواعية واختيار، وكثير منهم سعد باكتشاف الدماء العربية الإسلامية تجري في عروقه، وهو أمر غدا مفخرة بعد الانفتاح الديمقراطي باسبانيا، وكان في عهد دكتاتورية فرانكو أمرا لا يمكن الجهر به أبدا لما ساد من رقابة حالت دون النبش في ذلك الإرث المشع.

إن السحب التي لا تزال تخيم على أجواء العلاقات المغربية الاسبانية ترجع في معظمها إلى عوامل سياسية راهنة، وأمور السياسة كما هو معلوم آنية وذاتية ومصلحية، قد تتغلب فيها الأهواء والنزعات، وتتحكم فيها الخلفيات الايديولجية السياسوية، ويؤججها أشخاص معينون لا يدخلون في الاعتبار ذلك الرصيد الغني من الإنجازات الحضارية المشتركة بما يطعمها من قيم النبل والتسامح وروح الحوار وسمو الأخلاق. وهذه القيم إذا ما أخذت بعين الاعتبار فهي كفيلة بتنقية الأجواء السياسية الآنية من كل الشوائب. ولكن كيف؟ هذا هو السؤال؟ وعلى يد من؟ وهذا سؤال آخر، لأن الأمر يتطلب إعداد ملفات شاملة توظف التاريخي والحاضر لصالح المستقبل، وهذا أمر ممكن جدا إذا صدقت النيات وحسنت. وليس ذلك على الله بعزيز على المواطنين الصادقين المعتزين بوطنيتهم والمتشبثين بمقدساتهم والمراعين لمصالح البلاد والعباد هنا وهنالك.

د. علي الغزيوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>