الليل بهدوء طلعته، وسكون نسائمه ، سلسبيل الحكايا الشعبية، وزمن يفسح فيه المجال رحبا أمام الخيال، فيتدفق نهر من الخرافات الشعبية، والقصص العجيبة الموروثة والمتناقلة عبر الأجيال.قامت فيه المرأة/ الجدة دور الحامل وبنت فيه الرجال. فهي بحر متلاطم من الحكايا الشعبية، وكائن ينطوي على أسرار غريبة يخبئها عقله، ومعين لا ينضب ، ومصدر متدفق لا ينفذ. آلاف الحكايا تخزنها؛ تصدر عنها كشلال سيال صامد عبر الأزمنة.
وتظل الجدة بطل تلك القصص الغريبة، وراوي يحسن القص.يشهد له الأطفال بحسن السرد والحكي والرواية. ويستهويهم طول الحكاية وطريقة الحكي، والتشويق الجميل الذي تضفيه.
كثيرا ما ملأت جنبات البيت الفرحة، واستولت السعادة على الأحفاد الملتفين حول جداتهم محفزين إياها ومقنعيها بسرد قصة أو حكاية من عالمها المتفرد المنطوي على أسرار عن الإنسان القديم في صراعه مع الطبيعة والحياة والآخر.
ينضاف إلى براعة القص والحمولة الحكائية، والذاكرة الصامدة والمخزون الإرثي العريق،الذي تنهض به الجدة، ذاك الوقار الذي يعلو محياها، وتلك الحكمة التي تسري على لسانها، وذاك اللباس التقليدي الأنيق الذي عرفت به الجدات والذي ينطق حياء وحكمة وصدقا وإيمانا.
أتأمل ، اليوم، في زمننا المعاصر فتياتنا وهم يرتدون “الجينز” “jeans “، وينوعون في المساحيق ويطلقون شعر رؤوسهم للريح تقذفها ذات الشمال حينا، وتحركها ذات اليمين حينا آخر. فأخشى فيه على أولادي وأحفادي وأولاد المومنين،أخشى على القص أن يرحل بعيدا، ويستقر بجزر الوقواق…أخشى أن يصيب الشلل ذاكرة المرأة العربية ومخزونها الثقافي الشعبي الذي كانت تعتز به بين أحفادها بعدما أصاب لسانها العيي الممزوج بلكنة إفرنجية، وبعدما أصاب لباسها غير القادر على استيعاب جسدها كله، وستر عوراتها.أخشى أن يأتي يوم مر على نسائنا بعدما يسنوا ويهرموا ولن يقبل بهم الأحفاد ضيوفا ويخبو ترحيبهم بها، وتصبح ثقيلة الظل، غير مرغوب في وجودها وبقائها.
أتأمل “الجينز” “jeans” الأمريكي وأتساءل مستفهما ذاتي الشاردة في مستقبل قريب وقوعه: ماذا ستقدم الجدة بسروال” الجينز” “jeans” حينما تقبل ضيفا على أحفادها؟ ماذا ستحكي للأجيال القادمة؟ وهل تملك من الحمولة الحكائية والقدرة القصصية ما يؤهلها لشغر منصب الجدة؟ أخشى أيضا أن نفقد الجدة بعدما فقدنا الجد/البطولة،الجد/الشهامة،الجد/الرجولة. أخشى أن تجتمع نساء العالمين اليوم فلا يستطعن أن يهدين حكاية واحدة جميلة كما كانت تؤديها الجدة في زمن ماض قريب.
فرحم الله جداتنا وأجدادنا وبارك لنا في الخلف الذي نستبشر به خيرا ونتطلع فيه إلى أجيال مؤمنة لن تحكي عن أمنا “الغولة” ولا عن “عيشة قنديشة” ولا عن “سالف لونجا”، وإنما تحكي عن أمنا خديجةوأمنا عائشة رضي الله عنهما، وعن أبي بكر وخالد رضي الله عنهما، وعن الكيلاني وعائشة عبد الرحمان بنت الشاطئ رحمهما الله وغيرهم…
أمل معقود على جباه فتياتنا المؤمنات الحافظات، لنصنع المرأة من جديد، ونعيد لها مكانتها، ونصنع كذلك الرجل المفقود.
ذ. محمد بن الصديق