المعذبون فوق الأرض


لما انسدت في وجهه كل الأبواب وضع شهادته الجامعية في محفظته عائداً إلى قريته الصغيرة، وعيناه تفيض من الدمع حزنا، بجسم نحيف وعينين غائرتين ورأس منحن وأمل مفقود.

حاول أن يعمل مع أبيه في الحقل لكنه لم يستطيع لأنه لم يتعود على الأعمال الشاقة، مما جعله يكتفي بالقيام بالأعمال التي يقوم بها الأطفال الصغار (رعي الغنم، سقي الماء…) ولسان حاله يقول {وتلك الأيام نداولها بين الناس} مما جعل العائلة تنظر إليه نظرة شزراء، أما الجيران فيعتبرونه عِبْرة  لمن سولت له نفسه ترك الإشتغال في الفلاحة والإصرار على متابعة الدراسة المُهم كلما صرفت أبصارهم تلقاءه قالوا >اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها<.

لم يجد مع من يتحدث ويناقش لأن الكل أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة في هذه القرية، مما جعله يلتزم الصمت، لا يتكلم إلا نادراً، يقضي معظم وقته شارداً، منطوياً على نفسه، ضاقت عليه الأرض بما رحبت.

جلس على الأرض وأخذ يسترجع شريط ذكرياته الأليمة وهو يرعى غنمه في إحدى الضيعات : في هذه القرية ولدت ولما وصلت إلى سن الدراسة خيرني أبي المسكين بين شيئين اثنين لا ثالث لهما إما أن أرعى الغنم أو أن ألتحق بالمدرسة.. قررت العائلة أن ألتحق بحجرة الدرس، تكلف الأب بأعباء المصاريف وتكلفت أنا بأعباء التنقل اليومي إلى المدرسة، كنت أستيقظ باكراً وأصطحب معي محفظتي المملوءة بالكتب والقوت اليومي، دعيني يا نفسي أذكر لك القوت باسمه : خبز وزيتون أو خبز وقنينة شاي أو خبز وسمن في أحسن الأحوال هكذا قضيت المرحلة الابتدائية.

وقبل أن يسترجع زيد شريط معاناته في المرحلة الإعدادية والثانوية والجامعية انفجر باكياً مضطرباً كما يضطرب العصفور المبلل بالماء، بينما هو على هذا الحال فإذا بصوت أبيه يطرق أذنيه يا بَهْلُول.. يا بَهْلُول أين الغنم؟؟

ذهب الأبيبحث في اتجاه وزيد اتجاه آخر بينما الأب يبحث عن الغنم فإذا به يجد زيداً معلقا على جذع شجرة وقد سلم الروح لبارئها، اقترب منه وقد اغْرَورقت عيناه بالدموع وقبله من جبينه مخاطباً إياه {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}.

فريد لقرع

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>