أطرقَتْ مليا ثم قالتْ : “لكني ما زلت لا أعرف لماذا لا تتفرغين للأدب فقط، وخاصة وأن الأدب ما زال محتاجاً لتعدد الأقلام النسائية، وتنوعها، ليس عندنا بعد تراكما كافيا في هذا المجال يجعلك تخوضين في مجال آخر، خاصة وأني أرى أن الرجال أبرع، ولهم فيه تراكمات متنوعة ، بل ربما تراكماته أصبحت متضخمة. إني أعتقد لو أنك طرحت أفكارك بشكل أدبي جمالي، في قالب شعري أو قصصي أو أي شكل أدبي آخر لكانت مناسبة أكثر”.
في الحقيقة لم أفاجأ برأيها، فقد سمعت كثيرا مثله بألفاظ مختلفة. كما أنني مؤمنة بضرورة التراكم النوعي في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها الأمة في مجال الأدب المسؤول، الذي يدخل في إطار قوله تعالى : {مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها}، ولذلك قلت لها دون أن أحاول انتزاع رأيها في القيمة الجمالية لما تظنهكتابة خارج المجال الأدبي :”يجب أن نحدد مفهومنا للأدب وللجمال وللفن، ولغيرها من المصطلحات، كي نحدد أشياء كثيرة قد تغيب عنا، ولا ندركها إلا بعد هذا التحديد ، من هنا يمكن أن ندرك أن المقالة جنس أدبي ، يتوفر على جملة من العناصر الجمالية المناسبة، ولذلك فإن أبعادها الاجتماعية أو السياسية أو التعليمية أو النقدية لا يمكن النظر إليها في انفصال عن عناصرها الجمالية والأدبية. صحيح أنها تتميز عن غيرها بنَفَس كتابي مغاير، إلا أنها تسبح في الفضاء الإبداعي نفسه. وخاصة تلك التي تُسْلِسُ قِيَادَها لمقتدر حاذق، ومبدع متمكن يتسقّط درر المعاني، ويشيد غرر المباني ، ذاك الحريص على وضع الكلمة في مكانها المناسب الذي لا تلائمه غيرها، دون تصنع أو تكلف أو افتعال، والمتسلل إلى ثنايا العقل والوجدان ينسج بساطات معرفية، ويفتح نوافذ تخييلية تستقبل التآلف والتشاكل ، والانسجام والاختلاف بحس مسؤول. ذاك الذي يجعل من الكتابة إشراقات متدفقة، مفعمة بالخصوبة والإشعاع، لا يحجبها هدير النسيان، ولا تُمحى من ذاكرة القراء. ويتفرع عن المقالة نوع يُطلق عليه في الصحافة وعلى صفحات الجرائد أو المجلات ب”العمود”، و وربما كان هذا النوع المقالي ألصق بالإبداع من أنواع المقالات الأخرى. ربما لأنه من خلال تعبيره عن قضية من القضايا ينطلق غالبا من الذات ليصل إلى الجماعة، وينطلق من الخاص ليصل إلى العام المشترك. وربما لأن من عناصره الأساس الكثافة المعرفية والكثافة البلاغية، وأقصد بالكثافة هنا التعبير بتركيز وبأقل عدد ممكن من الكلمات. وربما لاحتمال تداخل أغراض وعناصر وسمات الأجناس الأخرى، وتكاملها فيه، بشكل متفرد لا نجده إلا في العمود الصحفي. ألا ترين الآن يا صاحبتي بأنني لم أخرج عن إطار الأدب، وأنني لا أفتقر سوى إلى أن يتقبل الله تعالى مني هذه الكلمات، ولتدخل في أي مجال شاءت، شرط تأطيرها في نطاق الكلمة الطيبة التي تؤتي أكلها بإذن ربها كل حين.