أسبــابـه و عـواقـبـه
اللعن في القرآن
ثبت اللعن في آيات كثيرة فقد لعن الله المشركين و المنافقين :
- {و يعذب الله المنافقين و المنافقات والمشركين و المشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء و غضب الله عليهم ولعنهم و أعد لهم جهنم وساءت مصيرا}(الفتح : 6).
- {و عد الله المنافقين و المنافقات و الكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم و لعنهم الله و لهم عذاب مقيم}(التوبة :68).
- {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا}(الأحزاب : 61).
و لقد لعن سبحانه الظالمين عموما ، و لعن ظلمة خاصين : كالقاتل ، و الذي يكتم كتاب الله، و الذي يؤذي الرسول ، و الذي يرمي المحصنات و الناقض للعهد :
- {أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة و الناس أجمعين}(آل عمران : 86).
- {و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدناربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا حقا فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين}(الأعراف : 43).
- {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار}(غافر : 52).
- {و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما}(النساء : 92).
- {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون}(البقرة : 158).
- {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم}(النور : 23).
- {و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار}(الرعد : 26).
- {إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين}(البقرة : 160).
و لعن الحق سبحانه الشيطان :
- {لعنه الله و قال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا}(النساء : 118).
- {و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين}(الحجر : 35).
- {و إن عليك لعنتي إلى يــوم الدين}(ص :77).
و لعن كذلك أقوام عاد و فرعون :
- {و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود}(هود : 59).
- {و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة بيس الرفد المرفود }(هود :99).
و قد شرح القرطبي في تفسيره قوله تعالى : {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل}(المائدة : 28). فيه جواز لعن الكافرين ، وإن كانوا من أولاد الأنبياء.و أن شرف النسب لا يمنع اللعنة في حقهم.
اللعن في السنة
و ثبت في السنة المطهرة كذلك اللعن ،فقد لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم أناسا منهم اليهود و النصارى ، كما ثبت لعنه : للزناة و للمتعامل بالربا و للخمر و للراشي والمرتشي و للمحلل و المحلّل لهو لمن سب الصحابة.
أما لعن الحيوانات مثل الدواب،فمنهي عنه، لما روي عن عمران بن حصين قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض أسفاره،و امرأة من الأنصار إلى ناقة فضجرت فلعنتها،فسمع ذلك رسول الله فقال : >خذوا ما عليها و دعوها فإنها ملعونة<(10).
أما العقرب فقد لعنها رسول الله . فعن سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت : >لدغت النبي عقرب و هو في الصلاة، فقال : لعن الله العقرب ،ما تدع المصلي اقتلوها في الحل و الحرم..<(11).
و ورد النهي عن لعن الريح. قال للرجل الذي لعن الريح : >لا تلعن الريح فإنها مأمورة و إنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه<(12).
و روى الإمام البخاري في صحيحه(13). أن عائشة و ابن عباس رضي الله عنهما قالا : >لما نزل برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة على وجهه ،فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال و هو كذلك : لعنة الله على اليهود و النصارى،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا<(14).
و روى الشيخان كذلك في صحيحيهما عن أبي هريرة ] أن رسول الله قال : >قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد<(15).
و معنى قاتل الله اليهود : لعن الله اليهود.
الإخلال بالنواميس الإلهية موجب للعن و المحق
للحق سبحانه و تعالى حكمة بالغة في خلقه، فقد سن لذلك نواميس تحكمه.و عليها يبنى نظام الأمم و مسارها الطويل في الزمن الذي ينطلق دائما إلى الأمام دون رجعة. والشذوذ عن هذه النواميس يخل بالنظام، ويربك الإنسان في حياته العامة و الخاصة. وانظر إلى العدل كيف يثبت الأمم والحضارات و يطيل عمرها و مداها في الزمن،و قد قال ابن قيم الجوزية في هذا ما معناه : إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان ، فهناك شرع الله ودينه، و الله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منه وأبين.
والناظر في كتاب الله تعالى يخلص لهذا الفهم استنباطا. ذلك أن الإنذار و الوعيد والإرشاد و التحذير الوارد في كتاب الله تعالى ، ودراسة ما جرى للأمم السابقة من رقي وانحطاط، يجعل الإنسان متعجبا ! فما هو في المسطور موجود في المنظور،لأن العوامل الدافعة لنهوضه و رقيه ، و العوامل الموجبة لانهياره و سقوطه مبثوثة في كتاب الله، والشواهد على ذلك كثيرة و متواترة، فهناك أمم أوتيت من هذه العوامل، فأخذت بها فمكن الله لها، و أصبح لها من التمكن ما جعلها على فترة في رغد عيش و شرف مقام.و لكن بانحرافها عن طريق الرشد ، و إخلالها بالسنن الكونية للتحضر و القيم و الموازين الأرضية المحتمة للسقوط، كان المآل واحدا ، و هو الانهيار و الاندثار ، و الأمثلة من حضارات الأمم السالفة كثيرة، و على سبيل المثال لا الحصر :
حضارة عاد و ثمود و الفراعنة بمصر واليونان و الرومان و الفرس.
كما يمكن قراءة بوادر ذلك في الحضارة الغربية المادية الرأسمالية القائمة،و ليس ببعيد منا انهيار جزء كبير من منظومة الحضارة الشيوعية.فقد جرت عليه سنة الأولين.
ولهذا أورد الله عز و جل في كتابه العزيز من التحذير و التنبيه و الإنذار والوعيد ما يجعل الإنسان يقظا للموازين والقيم وحافظا لهدي السماء و منهجه.
و إن الإنسان ليندهش من ذلك.انظر إلى قوله تعالى معرفا بنفسه قرآنه : {و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين و إنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}(الشعراء.: 192- 193)
و اعتصار النواميس و الأحكام والقوانين و القواعد التربوية منه لإدراكها والحفاظ عليها، و تربية النشء عليها هو الغرض الكلي و العام من التوجيه الإلهي لدارس و متدبر القرآن، حتى تكون الحياة ملك اليد،يوجهها الإنسان كيف يشاء بعناية و لطف ربانيين.
وقد ربط الحق سبحانه معرفة تلك النواميس بحسن استعمال العقل،و اعتبر أن ذلك خير معين لحركيته و نشاطه و حكمه. ولأن دعوة القرآن أصلا -كما هو شأن الكتب السماوية السابقة قبل التحريف- تتجه إلى العقل و الفكر، و لأنه لا سبيل إلى معرفة المبادئ و إدراك النواميس إلا بالتمسك بالعقل و الفكر.
و القرآن سواء في توجيهه أم إنذاره أم حواره يستعمل النقاش العقلي و يعول عليه، بل و يتضمن أدق القوانين المنطقية للنظر والبحث،و يهيب باستعماله في تحرر مطلق كامل.و حتى جوهر النفس و الوجدان جعله تحت ضابط العقل،كي لا يكون حاجزا يقطع السبيل بما يفيض به من أهواء. و كل النصوص القرآنية تثير العقل.إما بإثارة كوامن الدفع للعمل الصالح، أو التحذير والترهيب من مغبة أهواء النفس، حتى لا تتمرد على العقل و تتيه في ضلالات لا طائل من ورائها بل تصير مطية إلى البوار والخسران.
ولننظر إلى النص التالي، لنعرف أن الله عز و جل نبه للعقل لمعرفة دلائل وجوده وألوهيته.قال سبحانه : {فلينظر الإنسان إلى طعامه، إنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا، و عنبا و قضبا، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، و فاكهة و أبا، متاعا لكم و لأنعامكم ، فإذا جاءت الصاخة، يوم يفر المرء من أخيه، و أمه و أبيه، وصاحبته و بنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شان يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة، و وجوه يومئذ عليها غبرة ، ترهقها قترة، أولئك هم الفجرة الكفرة}(سورة عبس).
فالنص ينبه أوله إلى قيمة العقل لإدراك وجود الخالق ،و يعقبه الجزء الثاني مشيرا إلى إثارة الرهبة النفسية، كي يتم التفاعل التام بين العقل و النفس.و لا يمكن لهذه لنفس أن تتمرد على العقل و تدبيره و حكمه.
وهكذا يجري النسق القرآني دائما على إخضاع النفس للعقل،فلا حركية لها و لا جواز لتعدي حدودها مهما بلغ سلطانها على الإنسان إلا تحت طائل العقل.بهذا اللجام تأمن الوقوع فيما يخالف سنن الله في الأرض والكون أو يتمرد عليه..
وإرشاد القرآن الكريم للإنسان في هذا لاستعمال العقل على وجهين اثنين :إما على وجه التدبر و التفكر أو وجه الاعتبار. والأوجه الأخرى من التفكير كلها تبع لهذين الوجهين.
أما في التدبر فبالنظر إلى الآيات الإلهية المبثوثة في الكون و في النفس.و خصص لذلك مساحات شاسعة في القرآن.ومثال ذلك : {قل انظروا ماذا في السموت و الارض و ما تغني الايت و النذر عن قوم لا يومنون}(يونس : 101). و قال كذلك : {وفي الارض آيات للمومنين، وفي أنفسكم أ فلا تبصرون}(الذاريات : 20- 21).
والآيات كثيرة و متواترة في الدعوة إلى العقل لترقية الإنسان إلى مجالات لما هو أفضل و أعلى سواء على مستوى المعيشة أم على مستوى الحياة الفكرية و الروحية.
و أما فيما يتعلق بالاعتبار،فقد أرشد الإنسان إلى الاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الحضارات السابقة،لأن ذلك كان مؤسسا على سنن أرضية و كونية، وجدت فاعليتها لما استعملت على وجهها الصحيح ، ثم لما حدث لها النكوص بالإفساد في الأرض كان ذلك متناقضا مع السنن. و في هذا يوجه الحق سبحانه الإنسان للنظر و الاعتبار : {قد خلت مـــن قبلكم سنن،فسيروا فـــي الأرض فانظروا كيـف كـــان عاقبة الــمكذبين}(آل عمران :137).
وقال كذلك : {أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة و أثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها و جاءتهم رسلهم بالبينت فما كان الله ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون}(الروم :9). و قال : {فاعتبروا ياولي الابصر}(الحشر: 2).
وقد كتب اليهود و النصارى كتبهم وأسفارهم ،و غمطوا العقل حقه،فلم يشيروا مطلقا إلى العقل و لا إلى أنواعه و تبعاته من نهى و حجى و لب. إلخ. لأن تحريفهم لما طال العقيدة والتشريع أنكر العقل كلية، بل اعتبروا الدين لا يقوم على العقل ،خلاف شأنه في العقيدة و التشريع الإسلاميين.
وساق الله القصص في القرآن لا على سبيل سرد الحوادث تاريخيا، و لكن على سبيل القصد و هو الاعتبار و الاتعاض بما جرى للأمم السابقة،و حتى إن بعض القصص كانت مقتضبة ومختصرة أشد الاختصار ،لأن الغرض هو أخذ العبرة فقط. وهذا سبب إقحام القرآن للنصائح و العظات و التنبيه على معرفة هذه السنن و عدم الطغيان و الغفلة عليها.لأن >الغفلة تورث ظلمة والفكرة تورث نورا< كما قال علي ](16)، و انظر في قصة سيدنا يوسف، كيف ختم الحق سبحانه منبها في سورة يوسف : {إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.و انظر في خاتمة قصة موسى مع فرعون و جنوده كيف كان مآلهم مخزيا خاسرا. و كذا في قصص عاد وثمود و بني إسرائيل مع أنبيائهم و رسلهم ، و كيف حل المحق و السخط و اللعن لهم لمخالفاتهم السنن المؤسسة على شرع الله. فكل ما جرى منهم كان مخالفا و مناقضا لما اقتضته الإرادة الإلهية من سنن كونية مؤسسة على العدل و الخضوع لله في أوامره و اجتناب نواهيه،و الابتعاد عن الغلو والطغيان لأن ذلك مخل حقا بتلك السنن.
وحق اللعن الإلهي لكثير من الأمم الظالمة السابقة و لليهود خاصة، لما غيبوا العقل، وحكموا الأهواء، وحرفوا الكتب السماوية المقدسة، لأن الكتب لما نزلت كانت لا تدعو إلا إلى الخير ، ولا تأمر إلا بالعمل الصالح،و إقامة العدل ، وذلك من سنن الكون المقيمة للحياة كما أراد لها الله أن تكون. و لقد بين الحق سبحانه الغرض من بعثة الرسل لما حدث الاختلال : {لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب و الـميزان ليقوم الناس بالقسط}(الحديد : 24). و القسط : العدل.
ذ. عبد القادر بنعبد الله
————-
10- صحيح مسلم . باب النهي عن لعن الدواب 4/2004.
11- سنن ابن ماجة . كتاب إقامة الصلاة . باب ما جاء في قتل الحية و العقرب في الصلاة 1/395.
12- الترمذي. كتاب البر و الصلة. ما جاء في اللعنة.43/350 .
13- صحيح البخاري .كتاب الأنبياء.باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/570 . فتح الباري.
14- رواه مسلم في كتاب المساجد.باب النهي عن اتخاذ المساجد إلى القبور 1/377 .
15- البخاري.فتح الباري 1/634 – مسلم 1/376 .
16-نهج البلاغة .تحقيق الإمام الشيخ محمد عبده.