ب- نصرة العدل في مجابهة الطغيان والتسلط
ونصرة الحرية في مجابهة الاستعباد
نصرة العدل في مجابهة الطغيان والتسلط
ويمثل هذا المظهر محور عنصر النصرة، بل هو جوهره وغايته، لأن العدل في حقيقته تجسيد ل “أفكار” الرسالة، ومثلها، وقيمها، وبقائها المحور الذي يدور في فلكه “الأشخاص والأشياء”. أما الظلم فحقيقته أن تندحر الأفكار والمثل والقيم، من محور الاجتماع البشري إلى هوامشه، لتدور في فلك أهواء الأشخاص الأقوياء، الذين يهيمنون على محور الاجتماع البشري، ويديرون “الأفكار والأشياء” في فلكهم، لبقاء سلطانهم، ودوام تملكهم. فالعدل ـ إذن ـ هو روح شبكة العلاقات الاجتماعية الذي يمنحها الحياة والبقاء. وغياب العدل يلغي مبرر وجود الأمم (ومنها الأمة الإسلامية) ولذلك قال أبو الحسن الخزرجي : الملك مع العدل والكفر يدوم، ولكن الملك مع الإسلام والظلم لا يدوم. وجيوش الفتح الإسلامي حين خرجت إلى العالم، إنما خرجت لرفع الظلم عن الشعوب، أما اعتناق الإسلام، فقد تركته لاختيار الشعوب المحررة، لتتبين وحدها الرشد من الغي، دون إكراه في الدين، ولتختار واحدا من اثنين : إما الاسلام، وإما الجزية، التي تسوي غير المسلم بالمسلم الذي يدفع الزكاة ويخدم في الجيش لحماية الجميع من الظلم.
لذلك تضافرت مصادر التربية الإسلامية على إدانة الظلم، وتنفير المسلم منه في جميع مظاهره وأشكاله.
فالقرآن يسوي بين مصير المظلومين الذين يسكتون عن الظلم، وبين الظالمين الذين يمارسون الظلم.
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}(النساء : 97).
وفي المقابل يشيد القرآن بالذين يرفضون الظلم، ويتناصرون لمقاومته، ويستنهض هممهم لمنازلته :
{والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاء سيئة سيّئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}(الشورى : 39- 42).
والرسول يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم، من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مبررات وجودها :
“إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم، فقد تُودع منها”(1).
ويقول أيضا : “إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع تغير على الخاصة. فإذا لم تغير العامة على الخاصة، عذب الله العامة والخاصة”(2).
وكان من ثمار هذه التربية في عصر النبوة أن قامت روابط النصرة في مجتمع الراشدين على تعشق العدل والتضحية في سبيله، وصارت طاعة الحاكم مرهونة بمدى تقيده بالعدل واحترام الحريات. كان عمر بن الخطاب ] في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار، فقال : “أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا، فقال ذلك مرتين أو ثلاثا.
فقال بشر بن سعد : لو فعلت ذلك قومناك تقويم القداح ـ أي السهم ـ
فقال عمر : أنتم إذا أنتم إذا(3).
(أي أنتم إذا الرجال الممثلون للأمة المسلمة الحقة).
ولم يكن هذا موقفا نادرا أو موقوتا في سياسة عمر]، بل إن جميع مواقف عمر كانت من جنس هذا الموقف، لأن عمر لم يكن حاكما فقط، وإنما كان مربيا يرسي تقاليد ثقافة جديدة، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ويريد لهذه الثقافة أن تتحدر في تاريخ الأمة، وفي أعرافها، وقيمها، ونظمها، وتقاليدها، وأن يصبح العدل والحرية محور هذه الثقافة. وحقا إنه كان في ذلك عبقريا لم يفر فريه عبقري آخر في الإسلام.
نصرة الحرية في مجابهة الاستعباد
وهذا المظهر من مظاهر النصرة، يمثل محور عقيدة التوحيد، ويجسدها في واقع اجتماعي، يصهر الفروق بين الأفراد والجماعات، ويقضي على الفروق الطبقية التي يمكن أن تتحول إليها ـ درجة المسؤولية الاجتماعية ـ. ولذلك كان غياب الحرية في حقيقته، هو غياب التوحيد، لأن حقيقة التوحيد أن لا يخشى الانسان الموحد إلا الله، وغياب الحرية معناه خشية غير الله. ولقد فسر الطبري قوله تعالى : {يعبدونني لا يشركون بي شيئا} إن معنى لا يشركون بي شيئا هو : أنهم لا يخافون غيري من جبابرة السلاطين والأشخاص(4).
وهذا يضع على التربية الإسلامية مسؤولية كبيرة في تنمية تعشق ـ الحرية ـ ونصرتها، والغيرة عليها، والدفاع عنها، إذا انتهكت، كالغيرة على الأعراض والحرمات. ويتفرع عن ذلك تنمية الوعي بقيمة التعبير عن الرأي، لأن الأمة التي يوجهها عنصرـ النصرة ـ أمة تدرك قيمة النقد الذاتي، ـ أو التوبة حسب التعبير الإسلامي ـ وأثره في دوام صحتها وعافيتها، فلا تتراكم آثار الممارسات الخاطئة، حتى تنفجر في فتن مدمرة، تأتي على كيان الأمة دفعة واحدة. ولا بد للتربية الإسلامية أن تدرب متعلميها على ممارسة كلا من حرية الرأي، والنقد الذاتي، بحيث تنطبق عليهما المواصفات التي توجه إليها أمثال قوله تعالى : {وقولوا للناس حسنا} (البقرة : 83) و{جادلهم بالتي هي أحسن} (النحل : 125) و{قل لهم في أنفسهم قولا بليغا}(النساء : 63) وبذلك لا يتحول النقد أو التعبير إلى سباب ومهاترات، وتزرع الأحقاد، وتبذر الفتن، وإنما يقوم على تشخيص الظواهر الاجتماعية، وتحليل مقدماتها ونتائجها بغية التعرف على الممارسات الخاطئة للتوبة منها، واكتشاف الصحيحة للرجوع إليها.
ونحن نلمح في طريقة نزول الوحي، ما يشجع على ظاهرةـ التعبير عن الرأي الرفيع والتساؤل البناء، فحينما تساءلت نسيبة بنت كعب، المشهورة بأم عمارة، وصاحبة المواقف البطولية في أحد وحروب الردة : فقالت : يا نبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يذكرن؟ فأنزل الله تعالى :
{إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} (الأحزاب : 35).
ومع اعتقادنا الراسخ بكمال العلم الإلهي، إلا أننا نرى في مناسبة الآية واستجابة الوحي لطلب ـ نسيبة ـ وأخواتها، بعض مظاهر الحكمة الإلهية، التي شكلت الأحداث، لتعلم جيل الصحابة ـ والأمة المسلمة ـ درسا في التعبير عن الرأي، وأهميته، ولو كان الذي يعبر عن رأيه امرأة، ولو كان الموضوع الذي يدور حوله التساؤل هو أسلوب الوحي!! فإذا كان الأمر كذلك، فليس هناك من بني البشر من هو فوق التساؤل والنقد الإيجابيين!!
وعلى هذا النهج، سارت الحياة في المجتمع النبوي والعهد الراشدي. فحين تولى عمر بن الخطاب ] الخلافة ـ مثلاـ كتب إليه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل] من الشام رسالة مشتركة يذكرانه بالمسؤولية التي عهدت إليه، ويحذرانه مغبة القصور عنها. ومما جاء فيها : “أصبحت قد وليت مر هذه الأمة، أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل. فأنت كيف أنت عند ذلك يا عمر فإنا نحذرك يوما تعي فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتقطع فيه الحجج بملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له : يرجون رحمته ويخافون عقابه”.
وتلقى عمر الكتاب فلم تأخذه عزة السلطان، وإنما شكر لهما النصيحة والتواصي، وكتب يطمئنهما إلى ما أوصيا به، ثم أضاف :
“كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. فإنكما تكتبان به وقد صدقتما، فلا تدعا الكتاب لي، فإني لاغنى بي عنكما، والسلام عليكما”(5).
وكما أسلفنا، فإن أمثال عمر لم يتعدوا أصابع اليد في تاريخ المسلمين. لذلك فإن من ضمانات مبادئ الحرية والعدل التي أراد عمر إرساءها واستمرار “نصرتها”، أن لا تترك هذه المبادئ إلى ورع الحاكم وأخلاقه، بل تحرس بالتشريع وبالمؤسسات، وأن لا يكون هناك سلطة فردية مطلقة، وفردية التصرف معناها : العصمة من الخطأ، والعصمة معناها : عدم النقد، بل تحريمه وتجريمه، وعدم النقد معناه تشجيع الحاكم على الطغيان، وبقاء الطغيان والظلم مدى الحياة، معناه : أن لا تجد الأمة سبيلا للتخلص من الطاغية إلا بالانقلابات، والثورات الدموية، والفتن المدمرة التي تنتهي إلى مرض الأمة، وموتها.
ولتجنب هذه السلسلة من السلبيات والمضاعفات المهلكة، لا بد للتربية الإسلامية من التشريعات وبناء المؤسسات، وتقنين القيم السياسية، وأن ترفع انتخاب الحاكم وتقنين القيم السياسية وجماعية القيادة إلى مرتبة فروض الدين لأن هذا ما توجه إليه روح الشورى، التي يوجه إليها القرآن الكريم وتطبيقات السنة، وهذا ما فهمه عمر بن الخطاب ] حين قال : “لا خلافة إلا عن مشورة”(6).
د. عرسان الكيلاني
……………..
1- مسند أحمد، (تصنيف الساعاتي)، ح 19، ص 175
2- مسند أحمد، ح 4، ص 193
3- كنز العمال، ح 5، ص 687- 688
4- الطبري، التفسير، ح 18، ص 158ـ 159، سورة النورـ آية 55.
5- الطبراني، المعجم الكبير، ح 20، ص 32-33 رقم 45.
علي المتقى الهندي، كنز العمال، ح 16، ص 160-161 نقلا عن ابن أبي شيبة.
6- المتقي الهندي، كنز العمال، ح 6، ص 648 رقم 14136.