من خلال النصوص والآثار العديدة التي أوردناها في الحلقة السابقة نستنتج : أن الفطرة قد تتأثر بالظروف والأجواء الاجتماعية، فتنحرف انحرافا كليا، عن الإسلام برمته، أو تنحرف انحرافا جزئيا يجعلها لا تصلح لتمثيل الإسلام تمثيلا حيا، وبالتالي لا تصلح أن تكون أهلا للقدوة، وأهلا للدعوة، وأهلا للتأثير وإحداث التغيير لما عَلِق بها من اعوجاجات مُعيقة عن النهوض بمتطلبات الرسالة وحمل الأمانة.
وهذه الانحرافات قد يكون سببها :
أ- الترف المادي :
بعضُ الناس للْمَالِ ينتسبون، وللمال ينْحَنُون ويَرْكَعُون، فهو لديهم القِبْلة والمتَّجهُ، في فَلَكه يدورون، وبجمْعه يفرحون، وبسلطانه يتسلطون على رقاب الناس، مستغلين ومتحكِّمين. فالذين ينشأون في البيئة المُتْرفة المُتَبَطِّرة يكون ارتباطهم بالمال والمادة والطين ارتباط غايةٍ وهدف وليس ارتباط وسيلة وعارية يسْتوجبان شُكْر رَبّ الملك كله. وهذا الارتباط العضوي بالمادة يجعل الانسان المُتْرَفَ ينْظُر إلى المال على أنه ماله وليس مال الله، ومن أعطاه الله تعالى المال أعطاه كُلَّ خير، والذين لا يملكون الكثير من هذا المال لا يساوون شيئا لا عند الله ولا عند الناس، فالمال هو مقياس التفاضل في نظر المترفين، والذين انصبغوا بهذه النظرة يصعب اقتلاعهم منها وتحويل الطبيعة التي تنشَّأوا عليها، إلا من رَحِمَ ربُّك، وهم قليل، ولهذا فالمنغمسون في التراب لا يصلحون أن يكونوا قدوة للناس في رفع الهمة إلى السماء، ولا دعاة لجَنَّة عرضها السماوات والارض، خصوصا وأن الترف المادي قد بلغ من خطورته أنه سبب الخراب والدمار الاجتماعيين {وَإِذَا أرَدْنَا أن نُهْلِكَ قَريةً أمَرْنَا مُتْرَفِيها ففَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}-سورة الإسراء-.
إذن فالترف المادي يفسد الفطرة فيجعلها هادمة للكيان الإنساني عاجزة -بحكم تقيُّدها بعقابيل الأرض- عن النهوض برسالة التغيير والإصلاح {واتبَعَ الذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فيه وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}-سورة هود-.
ب- الاغتراب التربوي والثقافي والفكري :
بعض الناس يتربَّوْن في أجواء فكرية وثقافية بعيدة عن هموم الأمة وأصالتها، وهويتها، وجذور ثقافتها التي تغذيها عقيدة وأخلاقا وتقاليد وقيما اسلامية في البيت والحي والمدرسة والشارع والمواسم والأعياد واللقاءات والمسامرات إلى غير ذلك من الميادين التي تطبع الناشئة بفكر خاص وسلوك متميز… أما المسروقون من أحضان الأصالة فيرتضعون لبان الغربة الفكرية والثقافية وينشأون نشأة غريبة تمام الغربة عن روح الأمة وعقليتها وحضارتها، حيث تَتَلَوَّنُ نظرتهم للحياة والكون والإنسان بمنظار الثقافة التي ينتجها التوجه المادي، فينضاف إلى جهلهم بالحقائق المطلقة التي تنطلق منها ثقافة الأمة الإسلامية مُرَكَّبُ الغرور والاعتزاز بما تلقَّنوه من أفكار جاهزة مبنية على الإيمان بالمحسوس والمُشَاهَد، والانكار لكل ما غاب عن الحسِّ والتجربة، ويتبع ذلك الاستهزاء بكل مومن بالغيبيات، عَامِلٍ على تَكْييف سلوكِهِ وفْقَ هذا الإيمان، بل وأحيانا يُعلْن هذا الصِّنْفَ المغرَّبُ من الناس الحرْبَ على أمته وعلى كل من حمل لواء أصالتها ودعا إلى دينها وحضارتها المنبعثة من حقائق هذا الدين فهؤلاء {فرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِن العِلْمِ}-سورة غافر- الدنيوي الظاهري الموحي بالغرور والعجْب والكبرياء، فظنوا -لجهلهم- أنهم أحاطوا بكل شيء علما.
فالاغتراب إذن يفسد الفطرة ويمسخها ويجعلها غير قابلة للنهوض بالدعوة لإنقاذ الإنسانية من الانحراف الفكري المؤسس على الفهم البشري الناقص للكون والانسان والحياة، إذ كيف ينقذ الناس مَنْ لمْ يُنْقِذْ نفسه أولا من السير على شَفَا الهاوية.