إن المسلمين مسئولون كامل المسؤولية عما تردى إليه العالم من تَدَنٍّ في مستوى الأخلاق الإنسانية العالية التي جاء الإسلام ليحميها من الانهيار، لأن انهيارها هو الفناء بعينه للإنسان المكرَّم، فماذا يبقى من الإنسان بدون عقل شرعي يفكر التفكير السوي، وماذا يبقى من الإنسان بدون عِرْض نقي يُبيِّض الوجه ويصون الكرامة، وماذا يبقى من الإنسان بدون مكسب طيب يُعلي الجبين، ويمسح عن قلوب المحرومين زفرة الأنين. وماذا يبقى من الإنسان بدون أمْنٍ يَبُثُّ الثقة في العلاقات والمعاملات، وماذا يبقى من الإنسان بدون عدل يفيء إليه المظلومون من كل الأجناس والملل والألوان؟؟ وماذا يبقى من الإنسان بدون حرية يستطيع أن يقول بها للظالم يا ظالم- مهما كان حجمه- وللكاذب يا كاذب، وللقاتل للأفراد والشعوب يا قاتل، وللسارق للملايين والمليارات يا سارق، وللمرتشي سرا وعلنا، صراحة ومناورة، يا مرتشي؟ أليست الحرية أبرز عناوين الكرامة الإنسانية؟ من المسئول عن ذهاب كل هذا؟ أليسوا المسلمين بالدرجة الأولى والأخيرة؟ لأنهم مكلفون بذلك دينيا ووراثيا من عهد النبوة، وتاريخيا وعقليا لأنهم وحدهم يملكون موازين العدل والكرامة والشورى والحرية وقيادة السفينة إلى شواطئ النجاة من مسخ الدنيا وعذاب الآخرة؟!.
وماذا سيقولون لربهم عندما يقول لهم : قلت لكم{ فاعدلوا ولو كان ذا قربى} وأنتم هجرتم العدل في القربى والبعدى؟؟ قلت لكم : {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وأنتم انغمستم فيها ظاهرا وباطنا وتواطأتم عليها سرا وعلنا؟ وقلت لنبيكم : {لست عليهم بمسيطر} وأنتم سيطرتم على مقدرات الشعوب وضعفائها وكممتم أفواههم بالترسانات القانونية، والقيود الحديدية، والأسوار العالية، والأحكام القاسية؟؟ وقلت لكم : {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وأنتم تعاونتم مع المجرمين المحليين والدوليين والحزبيين والفئويين والعنصريين؟.
وماذا سيكون الجواب أمام القهار الجبار الحسيب الرقيب عند ما يقول للمسلمين، قلت لكم : {وأمرهم شورى بينهم} أي أن أمركم كله دِقَّه وجِلَّه شورى بينكم سواء في الأسرة، أو التعليم، أو الاجتماع، أو الدفاع، أو الاقتصاد، أو السياسة، أو اختيار النخبة القائدة، وأنتم اتبعتم من يتبجح بالديمقراطية الكاذبة. الديمقراطية التي تحل الكذب على العالم كله عيانا بيانا، فأين الأسلحة الفتاكة التي أباحت تدمير شعب بأكمله، واستعمار شعوب بأكملها؟ الديمقراطية التي تحل سجن شعب بأكمله والإتيان بمجموعة من العملاء يتحكمون فيه ويقدمونه لقمة سائغة للمحتل على طبق من الولاء الخسيس؟ الديمقراطية التي تضع خطا أحمر على الإسلام وهو شرف الإنسانية، وتُجيِّش المرتزقة في كل مكان للحط من قدره، وقدره هو قدْركم، وشرفه هو شرفكم، أفتأكلون بأثدائكم مع أن الحرة منكم كانت تجوع ولا تأكل بثديها؟ فأين كان عنكم رأيكم يوم سايرتم أهواء حفاري قبوركم، ومُسوِّدي مصيركم؟ إذا ادْلَهَمَّت عليكم الخطوب استبصروا بشعوبكم بمقتضى أن الديمقراطية هي حكم الشعوب لنفسها بنفسها، استفتوها في : الرشوة، والدعارة، والزنا، ومعاقرة الخمور، وشراء الضمائر، والكذب في المشاريع المنجزة إعلاميا فقط، والكذب في ادعاء تعميم التعليم والتشغيل والعدل والإسكان.استفتوها تفتح لكم الطريق وتكتسح الظلام من أمامكم، لأن الشعوب الإسلامية لا ينتظر منها أن تحل الحرام وتحرم الحلال، أو تغشكم في إعطاء الرأي الصريح الفاتح للطريق والمزيل للحيرة في نقطة البدء والنهاية. أما أن تعيش الشعوب هكذا بدون هدف بدون شورى، بدون ديمقراطية، بدون عدل، بدون كرامة، ومع ذلك تُعاش في الوهم، وهم الديمقراطية المكذوبة، فتلك الطامة الكبرى التي ستُغرق في لُججها الغث والسمين. فلماذا كانت الديمقراطية المتمسح بها أخطر من الديكتاتورية؟
لأن الديكتاتورية معروفة عند الخاص والعام، والقديم والحديث، والعالم والجاهل، والبسيط والمغفل، فهي مهما حاولت تلميع وجهها، فالناس يعرفون أن القناع كاذب، وصاحب القناع نفسه يعرف أنه كاذب، والمعارضون لها يهجرونها هجرانا تاما، ويتآمرون تآمرا صريحا مكشوفا.
أما الديمقراطية المكذوبة فهي :
- تلهي الشعب وتخدره وتوهمه أنه يُسمع لرأيه ويُعمل به مع أن الواقع الـمُرَّ هو أن الآراء المطبوخة، والمخططات المحسومة، هي التي تمرَّر في أشكال احتفالية بواسطة جوقات التطبيل والتزمير والتصفيق، وهي بهذا تزيِّف إرادة الشعوب، وتقضي على المعارضات بطرق ملتوية.
- تلعب بمصالح الشعب، وبذلك تنشئ الأحقاد والعنصريات والتفرقات، وتفرِّخ المنافقين والمتملقين عباد النفس والهوى.
- تقضي على الرجولة الحق بتأليب المتآمرين أصحاب المصلحة الشخصية على أصحاب الغيرة الإيمانية والوطنية، إذ يهمَّش الرجال، ويلمَّع الأزلام المتاجرون بالدين والأخلاق والمصائر.
- تؤخر الشعوب بخطوات للوراء في كل الميادين، حيث تكرس التثبيت للوجوه المحنَّطة التي لم يكن عندها ما تعطيه من أول مرة، أو أعطت شيئا ثم استنفدت أغراضها فبقيت عبئا ثقيلا على النفوس والشعوب والميزانية والتاريخ والحداثة.
- تضيع فرص التقدم والتحضر بسبب ادعائها العقل والقانون أكثر مما تحله من المشاكل، فأدعياؤها بأنفسهم ووجودهم في مراكز القرار سبب المشاكل، وسبب الجمود والركود، وسبب الإفلاس الشامل، والسقوط السحيق.
- تهين الشعب وتزدريه إذ لا تبالي بقراراته وإجماعاته، واختياراته الكبرى، فبأي حق تطبق في بلادنا الديمقراطية الانتقائية التي لا يسمح لها بإفراز شيء خارج عن المقاس، ألم يكن من نتيجة هذا الحساب توقيف المسلسل الديمقراطي في بعض البلدان الشقيقة، فأدى ذلك إلى إزهاق ما يقرب من مائتي ألف نفس، وما زال الرقم مرشحا للتصاعد.
وكما تتجلى الإهانة في عدم احترام اختيارات الشعوب تتجلى أيضا في عدم الاهتمام بمراقبته على المؤسسات المحركة لدواليب السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام مَنْ كنس مصرفًا من المصاريف فكأنما وضع يده على مخزن داره، ومن زوَّر إرادةً فكأنما صحح وضعا معوجًّا، ومن ارتشى فكأنما مارس حقا من حقوقه المكتسبة بالتقادم والإلَْف والعادة، لأن المنطق -عندنا- أن الموظف -صغر أو كبر- ليس مستأجرا في مؤسسات الشعب بأخذ راتبه نظير أداء مصلحة، لا ولكن أصبح كل واحد يعتقد أنه متربع على كرسي دولته وثروته وملكه، الأمر أمره والرأي رأيه ، فهو الكل في الكل، أما الشعب فهو الصفر في الصفر، فعقلية التفرعن لا يؤثر فيها دين ولا تاريخ، ولا صدمات ولا صواعق، ولا صراخ، ولا أنين الأيامى والثكالى، هذه العقلية هي التي تُدْخل الشعوب في أنفاق الثارات ودهاليز الأحقاد.
أما آن الوقت لشعوبنا وحكامنا وعقلائنا ومفكرينا أن يغلِّبوا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن يغلبوا حكم الشرع والقانون على حكم الهوى والأنساب الحزبية والفكرية والدموية المذهبية؟.