حوار مع د. حسين أبو لبابة رئيس جامعة الزيتونة سابقاً وعضو المجلس الأعلى العالمي للمساجد
حول قضايا :
التجديد والقراءة الجديدة للقرآن
الاسلام دين التجديد
< مسألة التجديد أصبحت موضة في هذه السنوات الأخيرة، ينادي بها الجميع، ينادي بها الإسلاميون، ينادي بها العلمانييون، ينادي بها من لا دين لهم، فهل هذه الدعوات تأتي في سياق رغبة ذاتية تنطلق من الذات ومن المجتمع، أم هو رغبة طارئة ومسألة خارجية يريد الغرب تحقيقها عن طريق نخبنا؟
>> بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا الأسعد الكريم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد :
أول شيء نلاحظه هو أن الإسلام هو دين التجديد ويدعو إلى التجديد، والنبي وعد هذه الأمة، كما هو معروف في حديث أبي داود >يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها< يتبقى معرفة ما المراد بهذا التجديد؟ بالطبع نحن ننظر من يدعو إلى التجديد حتى نعرف الهدف من هذا التجديد، أما إذا نادى العلمانيون والملاحدة وأعداء هذه الأمة بالتجديد فالمراد بتجديدهم هو هدم كيان هذه الأمة، والبناء على أنقاضه مجتمعات لا تدين بدين، ولا تحتكم لشرع، ولا تلتزم بقيم ولا بأخلاق إسلامية عاشت عليها أمتنا ردحاً طويلا من الزمن، وجربت هذه القيم وهذه الأخلاق فَصَحَّتْ.
هذا النوع من التجديد طبعا مرفوض ومنبوذ. بل هو رد على أصحابه.
أما إذا كان الدعاة إلى التجديد هم من أبناء هذه الأمة المخلصين الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة للنهوض بها، وللإقلاع بها نحو التقدم والرقي والأخذ بزمام المبادرة، والوصول إلى درجات تجعلهم ذوي قيمة واعتبار بين الأمم، فهذا لونٌ آخر من التجديد، بل هو التجديد المطلوب الذي لا يرفضه الإسلام، بل يدعو إليه.
وبالمناسبة، المراد بالتجديد لا يعني الهدم، والبناء على أنقاض ما نريد أن نجدده، ولكن المراد، هو تنقية الموجود، وإعادة الروح والحياة إليه، بحيث يصبح كأنه جديد، أي أن هذا الدين، هذه القيم، هذه الأخلاق، هذه الحضارة بمرور الزمن قد يصيب هذه أنساقها الفكرية والروحية بعض الهفوات، أو بعض الأمراض المعنوية، فيأتي التجديد ليعالجها، وليجدد فيها معاني القوة، فتتحول إلى معانٍ ناصعة، قوية كأنما أُنزلت الآن على قلب محمد .
هذا التجديد نطالب به وندعو إليه، لأنه يتساوق مع عقيدتنا، وفكرنا ودعوة رسولنا، ثم نحن، لاشك نحتاجه، وليس هناك عاقل، وليس هناك عالم من علماء المسلمين يرفض أو ينبذ الدعوة إلى التجديد، وكل من يزعم أن التجديد لا يجوز، أن الاجتهاد لا يجوز، فنقول له : هذه دعوة مرفوضة ومردودة لأنها تتعارض جملة وتفصيلا مع ما هو معروف بل يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة في عقيدتنا وفي ديننا وفي حضارتنا.
إذن فالتجديد هو مطلب إسلامي حقيقة، والاجتهاد هو مطلبإسلامي، وكل علمائنا منذ عصر الإمام الشافعي وما قبل الإمام الشافعي، وما بعد الإمام الشافعي كلهم يدعون إلى هذا وينادون به، ويكفي أن نعرف أن الإمام السيوطي في القرن العاشر كان يدعو إلى الاجتهاد وكان يزعم أنه هو مجتهد القرن العاشر الذي عاش فيه. إذن من هنا نقول إن الاجتهاد هو دعوة إسلامية من صميم هذا الدين. وكذلك التجديد هو دعوة إسلامية من صميم هذا الدين.
ولكن نريده تجديداً لا هَدْما نريده تنقية وتصحيحا، نريده إعادة البناء، بناء الأمة حسب قيمها وأصولها الصحية، لا هذا التجديد الذي ينادي به ويدعو إليه أعداء الأمة من هدم ومن ضياع ومن كفران بالأصول والمرتكزات ومن هدم للمعاني الحضارية وتقاليدنا التي تحقق لنا التميز، وما ينبغي أن نتسم به ونتصف به بأننا أمة مسلمة متميزة عن سائر الأمم وسائر الشعوب.
مفهوم التجديد
< في سياق الحديث عن التجديد حتى من داخل المنظومة الإسلاميةهناك من يدعو إلى القطيعة مع بعض الثوابت، والادعاء بمحاولة مسايرة بعض التطورات التي يعرفها المجتمع العالمي، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي أسس هذا التجديد حتى لا يزيغ الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر عن الأسس التي نبني عليها الفكر الإسلامي الأصيل؟ فرغم أنه ليست كل الأسس القديمة هي صالحة لحياتنا اليوم، لكن هناك بعض الثوابت وبعض المتغيرات التي ينبغي أن تراعى في هذا التجديد، إذن كيف تنظرون إلى هذه الأسس وخصوصا عندما تأتي الدعوة كما قلت من داخل الفكر الإسلامي، حيث نجد جرأة على بعض الثوابت التي -وكما قلتم سابقا- هي بمثابة المعلوم من الدين بالضرورة؟
>> في اعتقادي، من يطالب بالتجديد بالدوس على المقدس، أو بالنيل من الثوابت أحْتَرِسُ من أن أسميه منتميا إلى الإسلام، لأن المسلم الحقيقي يراعي أن هناك خطوطا حمراء لا ينبغي أن نتجاوزها، وهي الحفاظ على الثوابت، لأننا إذا فرطنا في ثوابتنا فقد فرطنا في شخصيتنا، ولم يعد هناك لا تجديد ولا بناء، ولا إعادة بناء، وإنما تصبح المسألة مسألة هدم، ومسألة ضياع، وتقيم على أنقاض هذا الهدم والضياع معان أو حضارة أو أي شيء يمكن أن يُوصف بكل شيء إلا بكونه إسلاميا ينتمي لأمة عظيمة ويرتكز على كتاب فريد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القرآن الكريم، ونصوص ثابتة وصحيحة لا يأتيها هي بدورها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، وهي النصوص النبوية الصحيحة، ومن هنا أي دعوة لا يمكن أن ننسبها للإسلام والمسلمين إلا إذا كانت تدعو إلى وجوب الحفاظ على الثوابت الصحيحة والقيم الكبرى، ومسائل العقيدة المعلومة من الدين بالضرورة، هذه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نناقشها أو ندخل في أخذٍ وردٍّ حولها.
ثم بعد ذلك عملية التجديد والتطوير تبقى -كما قلت- مطلبا إسلاميا طالما أنها تنطلق من مبدأ إرادة الخير لهذه الأمة، وحب القوة لها والسعي إلى أن تلحق بركب الحضارة وأن نتدارك ما نحن فيه من ضعف وهوان، حيث أصبحنا في مؤخرة القافلة الأممية والحضارية، حيث أصبحت كل القرارات تؤخذ من وراء ظهورنا، وأصبحنا نحن فقط نتلقى ونأتمر بالأوامر، والحال أن المسلم يعتقد أن العزة لله ولرسوله وللمومنين، والحال أن المسلم المؤمن لابد أن يسهم في صنع القرار، ولا يتقبل أي قرار وأي أمر إلا إذا كان منسجما ومتساوقا مع قيمه ودينه، وعقيدته وشريعته، فهذا هو ما أعتقده.
التجديد والمنهج الغربي
< من وسائل التجديد كما يدعي البعض، إعادة قراءة النص بمناهج غربية في كثير من الأحيان، هناك من يدعو إلى الاستفادة من هذه المناهج الغربية لإعادة قراءة النص، أي تطبيق المناهج الغربية على قراءة النص المقدس -أي القرآن الكريم بالدرجة الأولى- فإلى أي حد يمكن الاستفادة من هذه المناهج؟ إذا سلمنا بطبيعة الحال بإمكانية الإستفادة منها؟ وهذا كله طبعا يأتي في سياق الدعوة إلى إعادة قراءة النص.
>> أولا الدعوة إلى إعادة قراءة النص هي دعوة موبوءة ولا تصلح إطلاقا بالنسبة لنصوصنا نحن المقدسة، وأعني كتاب الله وسنة النبي .
بالنسبة للكتاب والسنة الذي يشرحهما هو النبي ، إذن الذي يقرأ لنا ويبين لنا إنما هو النبي ، ثم الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح، هؤلاء الذين تأثروا بالهدي النبوي وعرفوا ما لم تعرفه الأجيال التي جاءت بعدهم، ثم هناك ضوابط في القراءة والفهم والتفسير، منها اعتماد اللغة العربية، ما تتسع له اللغة العربية يدخل كله ضمن التفسير وضمن القراءة وهو جميل جداً ونقبله، أما استخدام -الآن- ما توصل إليه علم النفس وما توصل إليه علم الاجتماع، ووضع آيات الله تعالى وسنة النبي على محك النقد من خلال ما توصل إليه هؤلاء العلماء وأغلبهم من اليهود، ومن العلمانيين ومن النصارى هذا أمر مرفوضجداً لاسيما ونحن نعرف بعض الأفراد ممن ينتسبون للإسلام، وأنا أشك في إسلامهم الحقيقي، وجربوا عملية تفسير النص على هواهم كيف ابتعدوا جداً، وذهبوا إلى مدى أبعد مما يتصوره العقل النظيف، العقل المستقيم الذي يستمد من كتاب الله وسنة النبي ، والذي يهتدي بهديهما، إذن فعملية القراءة الجديدة والتي يدعو إليها بعض العلمانيين وبعض المتغربين الذين رضعوا من لبان العلمانية والإلحاد. هذه في الحقيقة دعوات مرفوضة، لأن الذي يفسر لنا كتاب الله وسنة النبي إنما هو النبي نفسه، والقرآن الكريم نفسه يقول : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} إذن النبي هو الذي يبين لنا هذا الأمر، ثم اللغة العربية، ثم الأفهام الصحيحة التي تستنير بالكتاب والسنة، أما هذه الشطحات الحديثة الجديدة فتريد أن تبعدنا عن الدين، أغلبهم لا يصلون، لا يصومون، لا يؤمنون لا يلتزمون بما تلتزم به الأمة، وهم منصنائع المستشرقين، ومن صنائع المتغربين، إذن هؤلاء يحدثون في ديننا ما ليس منه، فإحداثهم هذا إنما هو رد عليهم مِصداقاً لقول الرسول : >من أحدث في أمرنا ماليس منه فهو رد<.
< رغم ذلك يبدو أن الفكر الإسلامي رغم ما قلتموه من تحفظات هو في هذه الظرفية بالذات في حاجة إلى تطوير، وإلى إعطاء رؤى جديدة تعيد لهذا الدين حيويته، لأن هناك من يقول إن القراءات القديمة جعلت الدين مجمداً، لا يسري في شرايين المجتمعات، ويتعلق فقط بالنخب، لا يستطيع أن يصل إلى الشرائح الاجتماعية البسيطة، لذلك يطالبون بضرورة إعادة الروح لهذا الفكر عن طريق إحداث صيغ جديدة وقراءات جديدة، رغم التحفظات التي تقولون بها؟
>> أولا كما قلنا في بداية الحديث، مسألة التطوير والتجديد هي دعوة إسلامية لا شبهة فيها، ولا غبار عليها، أما هذه الدعوات بأن الإسلام أصبح متجمداً ولا يتساوق مع العصر ولايتفاعل مع المعطيات الجديدة، هذا كلام مرفوض، نحن بالنسبة لنا، هناك ثوابت، هناك ما أحله الله وهناك ما حرمه الله، وما أحل الرسول وما حرم الرسول، هذا لا نبيع فيه ولا نشتري، مثلا لا نقول الربا كان حراما في ذلك العصر، لا الربا حرام فهو حرام، لكن مسائل التقدم الأخرى كلها، مسألة البناء والتجديد، اللحاق بالغرب في مسألة الأسلحة في مجال التكنولوجيا، في مجال الصناعات وغزو الفضاء، في مجال اكتشاف البحار، في مجال نبش الأرض والانتفاع بخيراتها وكنوزها، هل في الإسلام آية واحة أو حديث واحد يمنع الإنسان من أن يبحث ويجد ويبتكر ويخترع؟ لكن دعاة التجديد هؤلاء يريدون أن يجعلوا الخمر حلالا، واختلاط المرأة المسلمة بالأجنبي حلالا، وأن تصير سافرة عارية، تسافر بمفردها وتخالط من تشاء وتتزوج كيف تشاء، هذا لا يعتبر تجديداً، هذا نعتبره هدما ومسخا للأمة، نحن كأمة مسلمة، ليس في قرآننا ولا في سنة نبينا، ولا في حضارتنا ولا في أخلاقنا، ولا في عاداتنا ولا في قيمنا ما يمنعنا من البحث والعلم والتقدم وبلوغ أسمى درجات الرقي، لكن ديننا يمنعنا من ارتكاب الموبقات، لا خمر، لا فسق، لا زنا، لا سرقة، لا اختلاط مثيراً للغرائز والشهوات، إذا كان هذا هو ما يعتبرونه تأخراً وجموداً، فمرحبا بالتأخر والجمود، وأكبر دليل على أن الإسلام يدعو إلى التقدم، هو أننا نملك -وأنا أعرف بعضهم- مسلمين ملتزمين ويعملون في “النازأ” في أمريكا ومن وصلوا إلى درجات عليا من الاختراع العلمي والرقي، لكن القضية عندنا في العالم العربي هي مشكلة القرار السياسي، وهي التي تضعفناو تترك هؤلاء الملاحدة، وهؤلاء العلمانيين يعتدون على الإسلام ويصفونه بأوصاف هو بريء منها في الحقيقة، إذن هؤلاء هم دعاة الانحلال، دعاة الانحراف، دعاة الفسق والفجور، وليسوا دعاة التقدم والرقي والبناء، أما الإسلام الحقيقي بقرآنه وسنته ونصوصه الصحيحة فيدعو إلى العلم الصحيح، والاختراع الصحيح، والكشف الصحيح، الذي يؤهل هذه الأمة كي تقتعد أسمى المدارج وأرقى المقاعد، بل الذي يؤهل أمتنا كي تقود العالم نحو الأمن والخير والسلم الحقيقي.
< في سياق جوابكم تحدثتم عن الغرب، ونحن نعلم أن العالم الإسلامي ظل موضوعا للدراسة من طرف الغرب، وهوما يسمى بالاستشراق، الآن هناك موجة جديدة من داخل الفكر الإسلامي، تدعو إلى جعل الغرب موضوعاً للدراسة، وهو ما أصبح يسمى عند البعض بالاستغراب كيف ترون هذه الدعوة؟ وما هي أهم مدخلات دراسة الغرب خصوصا في علاقته بالعالم الإسلامي؟
>> مسألة التعرف على الغير، أمر مهم جداً، والإسلام في اعتقادي لا يعارض هذا، بل يدعوا إلى المزيد من معرفة غيرنا حتى نحسن التعامل معه، وحتى نفهم ما يريد وما يحيك لنا.
طبعا الحركة الأولى للاستشراق كانت معروفة أنها تهدف لمعرفة العالم الإسلامي ومعرفة إمكاناته، عقيدته، حضارته، أخلاقه، تاريخه، بل حتى إمكاناته المادية، وما فيه من معادن وما فيه من خيرات إلى غير ذلك للإستيلاء عليه أو نهب البعض من خيراته، بطريقة أو بأخرى، بعدما فشل الغرب في الاستيلاء على العالم الإسلامي من خلال حروبه المسماة بالحروب الصليبية، وكان رواد الاستشراق كما تعرف جميعا في بادئ أمرهم في أغلبهم من القساوسة الصليبيين، ومن اليهود الذين يكنون للإسلام والمسلمين أشد العداوة بصريح كتاب الله تعالى : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}.
ومن هنا كانت دراساتهم ليست حبا في المسلمين ولكن للبحث عن ثغرات في بنائهم الحضاري والعقدي والعلمي ونحو ذلك للتسلل منها إلى العالم الإسلامي كي يشوهوا الإسلام، وعظمة الإسلام في عيون أبناء المسلمين، وكذلك كي يبشعوا الإسلام في عيون بني جلدتهم حتى لا يرتموا في أحضان الإسلام، لأن الإسلام إذا عرفته الشعوب على حقيقته لن تقبل بسواه بديلا، إذ أن الإسلام هو دين الحياة، دين الواقع، دين المنطق والعقل، دين الفطرة وتوجيه الغريزة، الوجهة الصحيحة، الإسلام يصلح حقيقة للعادة وللعبادة -كما يقال- إذن هم كانوا في سعيهم لدراسة الإسلام ليبعدوا شعوبهم عن معرفة الدين الإسلامي المعرفة الصحيحة حتى لا يتركوا ديانتهم ويعتنقوا الديانة الإسلامية وحتى يبشعوا هذا الدين في عيون أبنائه أيضا. وأنا أعتقد أن هذه الدعوات قد نجحت بعض الشيء بالنسبة لبعض أبناء المسلمين الذين درسوا في مدارس البعثات الغربية، والذين درسوا أيضا في مدارس القساوسة والغربيين، تلك المدارس التي انتشرت في بلادنا الإسلامية منذ القرن 18 تهيئة للاستعمار، وتهيئة لتخريج جيل من المسلمين، لا يملكون من الإسلام إلا القشور والمظهر، وهم ينظرون إلى العالم بعيون غربية بل يكادون يتنقسون بأنفاس الغرب، وتنبض قلوبهم بمحبة الغرب، وعندهم مواقف غير واضحة، فهؤلاء الذين يدعون دعوات استشراقية هم في الحقيقة تلاميذهم أو أذيالهم.
أما بالنسبة للدعوة لدراسة الغرب ومعرفته، فهذا أمر جميل جداً، إذ نحن في حاجة إلى معرفتهم، ليس من باب “إعرف عدوك” فنحن في الحقيقة لا نعتبرهم أعداء لنا، إذ أن الهداية بيد الله تعالى، لكن يهمنا جداً أن نعرف تاريخهم، أن نعرف لغتهم، أن نعرف حضارتهم وطريقتهم في التفكير، وعم يصدرون؟! وبم يأخذون؟! وفيم يفكرون؟!، وكيف ينظرون إلينا، هذا كله مهم جداً حتى نكون على بينة من هؤلاء الأطراف باعتبارهم يحتلون جزءاً كبيراً من هذه الأرض، وباعتبار ما يتمتعون به من تقدم تكنلوجي وتقدم علمي، فنحن في حاجة لمعرفتهم حتى نحسن التعاون معهم والاستفادة من معارفهم وعلومهم، وحتى يكون تعاوننا على قدم المساواة، ليس تعاون التابع للمتبوع، مثل ما هو وضع أغلب شعوبنا الآن للأسف الشديد، ومن هنا فإن معرفة الغرب والدعوة إلى تكويندراسات حول الغرب دراسات متينة صحيحة قائمة على العلم الصحيح، وعلى الملاحظة الصحيحة وعلى الاستنباط والاستقراء الصحيح، هذا أمر مطلوب، بل هو مطلب مهم جداً، ينبغي أن نبادر إليه اليوم، قبل الغد.
< الأستاذ الكريم، ننتقل للحديث عن السنة، التي أصبحت كل يوم ترمي بسهام الملحدين والعلمانيين ما بين دعوة إلى إلغائها، ودعوة إلى تصحيحها، وتصحيح الصحيح منها، إلى غير ذلك من الدعوات، هل لديكم ملاحظات حول هذا الأمر؟ ثم أولويات البحث في السنة النبوية في ظل هذا الوضع وفي ظل التحديات التي يعرفها الفكر الإسلامي الحديث؟
>> بادئ ذي بدئ أريد أن أقول أن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة هي وحي من الله لا يأتيه الباطل، السنة الصحيحة الثابتة مثل القرآن الكريم، ثم فوق كل هذا هي محفوظة مثل أن القرآن الكريم محفوظ، إذ قال الله : {إنا نحن نزّلناالذّكر وإنا له لحافظون} فقد قال أيضا : {لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} المتكلم هنا الله عز وجل الله الذي يقول : {ثم إن علينا بيانه} الذي يبين القرآن الكريم ما هو؟ السنة النبوية، إذن المُبَِّىنُ هو محفوظ بحفظ المُبَيَّن وهو القرآن الكريم، إذن السنة ثابتة ومحفوظة، وكل من يشكك فيها، إما أن يكون جاهلا، وإما أن يكون عدواً متربصاً، وعدواً يريد أن يهدم الإسلام من جذوره، لأن الإسلام بلا سنة ليس إسلاما، لأن السنة من وظيفتها أنها هي التي تقيد المطلق، وتخصص العام، وتبين المشكل، وتَبسُط المختصر، بالإضافة إلى كل هذا، فهي تستقل بالتشريع، النبي يقول : >ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول عليكم بهذا الكتاب، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وماوجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولاكل ذي ناب منالسبع ولا لُقَطة معاهَدٍ، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يُقروه…< فهذا الحديث ينبهنا على أن هذه الأمة سيأتي فيها بعض المشرفين (شبعان على أريكته) أصحاب البطون الكبيرة والأموال غير المشروعة، الذين يزعمون أن الدين هو القرآن وحده، وأن السنة ليست من الدين لهذا نبهنا النبي حين قال : >ألا لا يحل لكم…< كأني به يقول ها أنا أحرم عليكم وأحلل لكم ما لم يرد تحريمه ولا تحليله في القرآن الكريم، إذن من وظائف السنة أنها تحلل وتحرم بالإضافة إلى التوضيح والبيان الذي يعتبر من وظائفها الأولى.
إذن هؤلاء الذين يشككون في السنة، هم كما قلنا إما جهلة، وإما أعداء لهذا الدين، أما بالنسبة لدراستها، فبالطبع السنة، أولوية البحث فيها أننا نؤصل علومنا ومعارفنا بالعودة إلى كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ونحن في قضايانا المختلفة ومنها القضايا الجديدة المستجدة نجد في كنوز السنة من الثروات الطائلة التي تجعلنا نستفيد منها ونستضيء بأنوارها للمزيد من التعمق في هذه المعارف وللوصول إلى الكثير من الحقائق التي قد تغيب عنا إذا بحثناها بمعزل عن السنة النبوية الشريفة، وأن كثيرا من علماء الإعجاز العلمي وجدوا في القرآن الكريم وفي السنة النبوية مجالا كبيراً وفسيحا لدراسة الاعجاز الأمر الذي يثبت أن كتاب الله وسنة النبي هي قضايا ثابتة وصحيحة وموحىً بها من الله تعالى لأنها تتساوق تماما مع الكشوفات العلمية الحديثة، التي لم يتوصل إليها العلم ولا العقل البشري إلا حديثاً وحديثا جداً. إذن فدراسة السنة مطلب مهم، خاصة إذا درسها وعاد إليها علماء ما يسمى بالعلوم الصحيحة (علوم الرياضيات والطبيعة وعلوم البحار والفيزياء والكيمياء) هؤلاء سيجدون في السنة النبوية الكثير الكثير مما ينفعهم ويفيدهم، ويرتقي بهم في أعمالهم وكشوفاتهم العلمية، مماللأمة الإسلامية في أمتي وأشد الحاجة إليه.
< كيف ترون تحقيق تنمية شاملة في علاقتها بتطوير العملية التعليمية في العالم العربي؟
>> المعروف أن التعليم يعتبر حجر الزاوية في الرقي بهذه الأمة والنهوض بها نحو المجالات المتقدمة، لكن للأسف الشديد نجد أن العديد من دعاة هذا التطوير من أعدى أعداء هذه الأمة، مثلا ولا أريد أن أذكر الأسماء- عندنا في تونس أحد دعاة تطوير التعليم، وكان وزيراً للتعليم الابتدائي والعالي والتكنولوجيا والبحث إلى غير ذلك، هذا الوزير يدعو إلى تطوير التعليم، كيف؟ يقول بأن هناك تضاداً وتعارضاً بين ما يدرسه التلميذ والطالب في المدرسة، وبين ما يعيشه خارج المدرسة وداخل المجتمع، مثال ذلك يقول : التلميذ والطالب يتلقى في المدرسة أن الربا حرام، لكن عندما يخرج إلى البنوك يجد أن البنوك كلها ربوية، عندما يدرس في المدرسة يقال له إن الخمر حرام، لكن عندما يخرج منالمدرسة يجد الخمارات تملأ الشوارع الإسلامية، يقول أن هذا التضاد يحدث عند التلميذ أو الطالب ثورة ضد النظام أوالمجتمع، فيدعو إلى جعل المدرسة تتساوق مع وضع المجتمع المنحرف، بمعنى أن نقول للتلميذ بأن الربا في القديم كان حراما، لكن في العصر الحديث نحن مضطرون للتعامل بالربا، وفي القديم كان الخمرحراما، ولكن الآن لتداخل الشعوب وحاجتنا للتعامل والتجارة إلى غير ذلك فنحن نحلل الخمر، هذا في الحقيقة، أنا لا أعتبره، إصلاحا، بل أعتبره إفساداً وأعتبر أصحاب هذه الدعوة من المفسدين في الأرض، هؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}..
أما أن يدعو إلى الإصلاح المسلمون المخلصون لهذه الأمة، والذين يسعون إلى النهوض بها، وإلى الخروج بها من وهدتها، فنحن نتقبل أن نراجع برامجنا، وأن نراجع طرائق التعليم، وأن نستخدم الطرائق البيداغوجية الحديثة، وأن نستفيد من كل ما يتوصل إليه العلم (علم النفس، علم التربية إلى غير ذلك للوصول إلى أسمى الدرجات العلمية، هذا أمر نحن نطالب به ونحن نشجعه، لأنه أمر سوف يحقق لأبنائنا المزيدمن التحصيل، ثم يحقق لنا الطرق التي توصلنا إلى المعرفة، وإلى التقدم في مجالات المعرفة التي نحن في أمس الحاجة إليها، لأننا وللأسف الشديد قد تأخرنا جداً وابتعدنا جداً عما ينبغي أن نكون فيه، إذ نحن قد تخلينا عن الدعوة إلى العلم، وعما يتسم به ديننا وحضارتنا، إذ أن العلم والإسلام يكادان يكونان صِنْويْن، بمعنى لا يُمْكن أن نفصل بين الإسلام والعلم، إذ أن الدين يدعو إلىه بكل قوة، والآيات والأحاديث كثيرة جداً تدعو إلى التعلم، وتشين وتقلل من شأن الجهلة، بل وتدعو إلى محاربة الجهل، بل إننا نحن المسلمين يدعونا ديننا إلى التعلم وإلى الجادة التعليم لما يسمى بالرسالة ولهذا الإمام البخاري يترجم في أحد أبواب العلم، يقول : باب العلمُ قبْل القَوْل والعمل، إذ أن أي قول أو عمل في الإسلام لا يجوز أن يحدث إلا بعد أن نتعلم ونعرف ماذا نقول وماذا نفعل، ثم يأتي بحديث أو قول سيدنا عمر (تفقهوا قبل أن تسودوا) فيضيف البخاري (وبعد أن تسودوا) لماذا؟ لأن السيادة تجعل الإنسان يستحيي من أن يجلس مجلس المتعلم، ولهذا يقول تعلموا قبل أن تصبحوا سادة وتصبحوا كباراً، وبعد أن نصبح كباراً، إذ أنه لا حياء في التعلم، فالحياء والكِبر يحاربهما الإسلام باعتبارهما معوقين أمام التعلم، وأمام الوصول إلى الحقيقة.