1- مفهوم الفطرة في القرآن والسنة
مقدمة عامة
أشربت النفوس الآدمية الفطرة.وهي الطبيعة الإنسانية المتكاملة بكل قواهاووظائفها الحيوية التنسيقية الكامنة والظاهرة، فهما شقان متكاملان بهما يتم ملاك الصفة الحيوانية والذات الإنسانية.
ويترتب على هذا التكامل الفطري الوظيفي حق التوازن،فلا يجوز للإنسان أن يبخس حقوق أحدهما،كما لا يجوز الإسراف في إهمال أحدهما إرضاء للآخر،ولهذا قال الحق سبحانه : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.قل من حرم زينة الله الذي أخرج لعباده والطيبات من الرزق}(الأعراف : 31)
وتتآصر تكوينات فطرية معنوية أخرى مع هذين النسقين،منها : العقل، الذي هوقوة (أولطيفة) عالمة ومدركة لحقائق الأشياء، يفيض بنوره على الجسد والروح،ولكنه ألصق بالروح، وأكثر خفاء على إدراكات الإنسان الحسية،ولهذا تنعدم معرفتنا لكنهه، فقد قال الله تعالى : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}(الاسراء : 85) .ومنها :
النفس، وترتبط بها الغرائز والإرادات،وهي جوهر : (ذلك ثابت من جهة الشرع والعقل .أما الشرع فجميع خطابات الشرع تدل على أن النفس جوهر وكذلك العقوبات الواردة في الشرع بعد الممات تدل على أن النفس جوهر، فإن الألم وإن حل بالبدن فلأجل النفس.ثم للنفس عذاب آخر يخصه، وذلك كالخزي والحسرة وألم الفراق وكذلك ما يدل على بقائه).
وأما من حيث العقل فنرى أن ذلك من وجهين : (وجه عام يمكن إثباته مع كل أحد، ووجه خاص يتفطن له أهل الخصوص والإنصاف. أما الأول فهوأن يعلم أن حقيقة الإنسان ليست عبارة عن الجسم فحسب، فإنه إنما لا يكون إنسانا إلا إذا كان جوهرا،وأن يكون له امتداد في أبعاد تفرض طولا وعرضا وعمقا-وأن يكون مع ذلك ذا نفس- وأن تكون نفسه نفسا يتغذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة،ومع ذلك يكون بحيث يصلح لأن يتفهم المعقولات، ويتعلم الصناعات ويعملها، إن لم يكن عائق من خارج لا من جهة الإنسانية، فإذا التأم جميع هذا، حصل من جملتها ذات واحدة، هي ذات الإنسان.فإذا ثبت بهذا أن حقيقة الإنسان لا تكون عرضا، لأن الأعراض يجوز أن تتبدل، والحقيقة بعينها باقية،فإن الحقائق لا تتبدل،فإذا ما هوثابت فيك مذ كنت فهونفسك، وما يطرأ عليك ويزول هوالأعراض.وأما الوجه الثاني وهوالبيان الخاص،فهوالذي يصلح لأهل الفطانة ومن فيه لطف الفهم والإصابة، فهوأنك إذا كنت صحيحا مطرحا عنك الآفات مجنبا عنك صدمات الهوى وغيرها من الطوارق والآفات، فلا تتلامس أعضاؤك ولا تتماس أجزاؤك،وكنت في هواء طلق،ففي هذه الحالة،أنت لا تغفل عن أنيتك وحقيقتك بل وفي النوم أيضا}(أبو حامد الغزالي معارج القدس في مدارج النفس ص 29- 30).
وعلى الجملة فإن أمر النفس عند الإمام الغزالي جوهر منزه عن المادة والصور،أي أنها ليست جسما ولا بعضه. وقد وصفت في القرآن بأوصاف أربعة :
1- مطمئنة : {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}(الفجر.3).
2- موسوسة : {لقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}(ق.16).
3- لوامة : {ولا أقسم بالنفس اللوامة}(القيامة.2). وهي ما يسمى عند المحدثين بالضمير.
4- أمارة بالسوء : ({إن النفس لأمارة بالسوء}(يوسف.53).
وهذه الأنفس،يفيض عليها نور العقل فتهتدي به،وهولجامها،والضابط لها.فإذا أدبر عنها فاضت عليها نوازع الطباع والأهواء،فتتأثر بها وتنقاد لها.
وإن النفوس توضع لها الموازين يوم الحساب.وقد كان الغزالي يرى أنها التي تنعم بعد البدن وتعذب (لأن الألم وإن حل بالبدن فلأجل النفس)(نفسه ص 29).
ومن الأواصر المكونة المعنوية الأخرى : القلب. وهوكذلك ألصق بالمعاني الروحية منه إلى الماديةغير ما يراه المشرحون والفسيولوجيون من أنه هذا العضو أوالمضغة المسؤولة عن ضخ وجمع الدم،وتصريفه إلى أنسجة وخلايا الجسم.وهذا مصطلح خاص بعلم فسيولوجيا الأعضاء.
وقد عبر القرآن الكريم عن الجانب الروحي له في آيات كثيرة :
{إلا من أتى الله بقلب سليم}(الشعراء.89).
{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس،لهم قلوب لا يفقهون بها}( آل عمران.159).
{أ فلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يفقهون بها}(الحج.46).
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أوألقى السمع وهوشهيد}(ق .37).
ووردت أوصافه في أحاديث متواترة،شملت فصائل الناس حسب درجتهم في التقوى وقبولهم للدين أونفورهم منه، فمنهم المؤمن والكافر والمنافق.
هذه الفطرة كما خلقها الباري فأتقن برأها، وصورها فأحكم صورتها ، هي خلقة أوجدها الحق عليها عاقلة ومدركة ومتغذية ومتكاثرة،و حاوية لمبادئ واستعدادات مثبتة فيها للتربية والتوجيه والتحصيل.والحاصل أنها سالمة خالية من الرعونات والتطبع البيئي القبيح.ولهذا قال سبحانه : {فطرة الله التي فطر الناس عليها}. وهي بهذا اللطف الإلهي لا تصدر عنها إ لا الفضائل، لأنها نقية على فضيلة خلقتها، وصافية على حسن تقويمها، والله تعالى قال : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}(التين : 4- 6).وجعل العقل عليها دليلا ونبراسا، لأن بوظيفته النورانية الباطنية تدرك الحقائق وتؤتى الأعمال الصالحة والعقائد النافعة الحقة، ومن ثم كان إدراك كنه الدين وحقيقته.والسقوط في أسفل السافلين لا يكون إلا باكتساب الأعمال والعادات الفاسدة والطبائع والعقائد الباطلة والتي تعرض على العقل قبولا أوردا، ولهذا قال أصحاب جهنم : {لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير}(الملك : 10).-
هذا كله هوشهود الفطرة . وبها رشح الإنسان لعمارة الأرض وإصلاحها وعدم إفسادها،وبها وعلى أصلها النقي تم الاستخلاف، وذلك ما هدف إليه الإسلام.ولهذا وصفه الله بأنه دين الفطرة.
ولما كان كذلك، كان كل ما أتى به واقعيا يتلاءم مع فطرة الإنسان، فترتاح إليه.وبدا تصميم الإسلام للحياة البشرية (فرادى وجماعات )قابلا للتحقق في حيواتهم،متميزا بالواقعية والسلامة. والعقل البشري يقبله ويحمده، لأن آثاره العظيمة على حياة الإنسان تدركها الفطرة ببساطة، فتسكن وتطمئن إليه .
ولما كانت مجبولة على الصفاء، ولا يصدر عنها إلا الفضائل الإنسانية،كان الناس على مختلف مشاربهم وقوة مداركهم وتنوع نحلهم متفقين على أهمية وفائدة هذه الفضائل ونوازع الخير دون الوقائح ونوازع الشر،لأن تأصلها في الفطرة أوجب لها ذلك.
الفطرة في القرآن والسنة
النصوص الصريحة القطعية من القرآن لكريم والسنة توجب الإيمان بهذه الفطرة، وأنها هيئة الخلقة الأولى للإنسان .وكان اللازمتبيان هذه الهيئة بسبيل علمي أثبتته الملاحظة والتجربة والنظر المستنير العقلي لمراحل الإنسان، وكشف الحجاب عن كثير من الجوانب الخفية لجوانب لإنسان المكونة بيولوجيا ونفسيا وعقليا،و عبر مراحل عمره منذ ظهوره كخلية ملقحة في رحم المرأة إلى موته، مرورا بولادته ومرحلة طفولته ثم شبابه وشيخوخته.
> الآيات الكريمة في الفطرة :
{ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(الروم 30).
{فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة،}(الإسراء 51).
{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا}(طه 72).
{يا قوم لا أسئلكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني}(هود.51).
{ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}(يس.22).
{ إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}( الزخرف.27).
> الأحاديث الشريفة الصحيحة المتواترة في الفطرة وخصالها :
خص الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام الفطرة بتعاليم، استفدنا منها مفهومها، وعرفنا خصالها،وهي سنن الفطرة المرتبطة بالإنسان ودينه وبدنه ووظائفه، منها :
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أوينصرانه أويمجسانه كالبهيمة، هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا انتم تجدعونها<(البخاري كتاب الجنائز ج 2658).
* ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
>خمس من الفطرة – وفي رواية – الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط<(البخاري ومسلم).
ويقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عن الاستحداد أنه : (هوحلق العانة، وسمي استحدادا لاستعمال الحديد) وهوالموسى أوالشفرة.
والمراد نظافة موضع العانة،لأن المكان كثير التعرق،قليل التعرض للهواء، ويسبب رائحة كريهة نتنة إذا لم ينظف،كما قد يؤدي ذلك إلى تعفنات وإصابة بفطريات مرضية،فكان الحلق نظافة وقاية لها.
وأما نتف الإبط لما كانوا عليه سابقا، وأما الآن فالحلق،لتوفر الأدوات الميسرة لذلك. ويقول النووي : (أما نتف الإبط فهوسنة بالاتفاق ، والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه ويجوز بالحلق وغيره) ولأن النتف يضعف التعرق تحت الآباط،وهذا ما كان يراه ابن حجر العسقلاني مسترشدا بالهدي النبوي في النتف. وقد يكون باليد أوبالمراهم التي تزيل الشعر كما هومستعمل في وقتنا هذا .
* وفي رواية مسلم : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (وقت لنا رسول الله في قص الشارب و تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة).
وقص الشارب سنة فطرية،لأن الشارب إذا طال تلوث بالطعام،وطوله يجلب تلوثه بالعوامل المختلفة،ولما كان قربه من الأنف والفم،وهما جيبان منفتحان على الدوام، كان احتمال العدوى ونقل الجراثيم والميكروبات كبيرا من جهة،والظهور بمظهر اللياقة والتواضع خلاف طوله وفتله لأن ذلك من مظاهر الغطرسة والجبروت،والمسلم أكثر الخليقة تواضعا ونظافة ولياقة، من جهة أخرى.
* كما روى البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رصي الله عنهما أن النبي قال : (من الفطرة قص الشارب).
* عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت أن النبي قال : (عشر من الفطرة : قص الشارب واستنشاق الماء والسواك وإعفاء اللحية ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء وقص الأظافر وغسل البراجم) وأضاف الراوي : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة(مسلم).
ويقول القاضي عياض : لعل العاشرة الختان لأنه مذكور في حديث ( الفطرة خمس).
أما انتقاص الماء المشار إليه في الحديث فهوالاستنجاء.
* وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما،فيما ورد في حديث الإسراء والمعراج : (عندما خير جبريل عليه السلام النبي ، تاركا الخمر وشاربا اللبن،فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة) .
يبدومما سبق احتفاء الإسلام بهذه الخصال، واهتمامه بها،ودعوة الرسول الأكرم صريحة إلى الأخذ بهذه السنن، لما لها من منافع صحية جمة في حياة المسلم،وأما أمر السواك والختان فأمر الطب واضح فيهما، لأن نظافة الفم من أوجب الواجبات، وكذا نظافة الأعضاء الجنسية،لما يترتب عن إهمال نظافتهما من خطر مباشر على صحة الإنسان،وكتب الطب مسهبة في ذكر ذلك من تعفن وتدرن والتهابات وعدوى.
فتلك سنن الأنبياء من قبل، لما جمع لنا من آثار صحيحة متواترة.وكل هذه الخصال داخلة في الفضائل التي حث الإسلام الحنيف على التحلي بها،فإنها ولولم تكن فضائل ما نبه عليها الرسول الأعظم وأمر بها .
ذ. عبد القادر بنعبد الله