مواعظ معركة لا تنتهي!!


يقول الله سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا   إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله…}(سورة الأنفال).

تقرر الآيات قضية مهمة في البناء الحضاري الإسلامي في حربه وسلمه، وهذه القضية هي أن  للحرب أو المعركة مواعظها ووصاياها الإلاهية التي تؤطر القوة وتضع لها قواعد وأخلاقا صارمة أثناء الاضطرار لممارستها في حركة الدعوة وحمايتها من تحرش الكفر وطغيانه.

فالحرب /المعركة ليست مجرد ساحة للقتال والقتل، بل يريد الله للمسلمين أن يتحركوا أثناءها بالرسالة الإسلامية وفلسفتها الفكرية والحكمية على مستوين:

ـ مستوى تُحَطَّم فيه الحواجز الموضوعة في طريق الدعوة والحركة.

ـ ومستوى يُبْنَى فيه المسلم على قواعد روحية متينة تنطلق في آفاق السلم والحرب والخير والقوة، وتخوض مع الكفر بكل أشكاله وألوانه معركة القوة في مواجهة الضعف، والثبات في مواجهة التردد والاضطراب، وكل ذلك حتى يظل المسلم رساليا في حياته ، ورساليا في حركته.

إن القرآن الكريم يطلب- قبل الدخول في أي معركة – استيضاح شرعيتها أولا ثم أهدافها ثانيا ثم أطرافها ثالثا، حتى تتكون له صورة متكاملة حول المعركة مع الكفر مما يؤهله روحيا وشرعيا وفكريا لخوضها وتحقيق الانتصار المطلوب الذي يفسح آفاقا جديدة أمام الدعوة والرسالة، فسلامة الهدف والرؤية ضامنة للثبات والاستمرار في المعركة حتى النهاية.

ومما يعين على  هذه السلامة ذكر الله : {واذكروا الله كثيرا} لأنه يمثل مصدر القوة في مواقف الضعف، وأساس الأمن  في مواقع الخوف، وقاعدة الانضباط والضبط في حالات التردد أو الانحراف، يشعر معه المسلم بأنه ينطلق في أجواء المعركة من مهمة رسالية لا حالة مزاجية، مهمة رسالية تتوخى الفلاح {لعلكم تفلحون} طاعةً لله ورسوله {وأطيعوا الله ورسوله}، الطاعة التي تحمي المسيرة من الانحراف وتصون الخطوات من التعثر وتحقق الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية، وهذا كله يعصم من الفتنة والتنازع الذي يؤدي إلى الفشل {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} لأن التنازع ينطلق من فكر أناني ذاتي خاضع للمزاج والنوازع الشخصية عندما يصطدم بفكر آخر، مما يؤدي إلى أن تفقد المسيرة الإسلامية قوتها ومسارها وطريقها المستقيم، مما يؤدي -تبعا لذلك- إلى فقد عناصر النجاح وشروطه، فعوض أن تذهب ريح المسلمين تجاه الكفر لتدميره، فإنها توزع وتضعف وتصبح شبيهة بذلك الهواء الخفيف الكسول الذي لا يحرك ساكنا.

ثم تعرج الآيات للحديث عن الصبر الذي يختزل قوة الموقف ووضوح الرؤية وسلامة الطريق واستقامته وحرية الإرادة {واصبروا إن الله مع الصابرين}.

{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا..}.

والبطر هو الطغيان في النعمة والانحراف بها عن وجهها الصحيح بعيدا عن خط التوازن والاعتدال، ويبين السياق أن هؤلاء لا يخرجون منطلقين من حالة الإخلاص العميق للرسالة، بل من حالة رياء استعراضي يحاولون من خلاله الإيحاء للناس بقوتهم وعظمتهم، حتى يسهل صدهم عن سبيل الله، {ويصدون عن سبيل الله} بكل ما يتاح لهم من وسائل الضغط التي يملكونها ضد الرساليين. {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم}بما يوسوس لهم أنهم في موقع القوة الفكرية والمادية، وأنهم في موقع القوة المطلقة التي لا تغلب {وقال لا غالب لكم اليوم من الناس} فلا تخافوا من الهزيمة {وإني جار لكم}.

{فلما تراءت الفئتان}وبرز الإمداد الإلهي وظهرت الغلبة للمسلمين، {نكص على عقبيه} متملصا من كل ادعاءاته ومتخليا عن كل وعوده {وقال إني بريء منكم}.

إنه التصور الشيطاني الذي يسيطر على الكفر ويذهب به بعيدا في حركة الضلال والإضلال.

ولمواجهة هذه الحركة لابد من حركة رسالية تتميز بأعضاء يسيرون على خطى الرسول  ويتشبهون بالصديقين والصلحاء، عبادا للرحمن،  يمشون في سبيل هدم الباطل وبناء الحق.

إن القرآن وهو يسلط الضوء على واقع الرسالة المتحركة في دنيا الناس عبر الأزمان والأمكنة إنما يريد أن يكون كتاب الدين المتحرك، كتاب الحركة المتجددة والمسدِّدة والمسدَّدة، لقد كانت المعركة -أي معركة- تنطلق من خلال الإشارة القرآنية وكان القرآن يتحرك وسط المعركة داعماً ومحفزاً ثم مقيِّماً، واضعاً أسس المنهاج الرباني الذي لن يتخلف عن الزمان والمكان.

فمتى يصبح هذا المنهاج نبراساً يقودنا في حركة الحياة، ومتى يصبح فكرنا وعلمنا بالقرآن نبضاً في قلوبنا وواقعنا؟؟ فهناك فرق بين الفكر والإيمان، فالأول معادلة قد تكون رياضية أحياناً أما الإيمان فهو نبضة قلب تحول الفكر إلى حالة روحية بانية؟؟

إنها مواعظ معركة لا تنتهي بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل إلى أن يشاء الله رب العالمين.

ذ. محمد البنعيادي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>