إخراج الأمة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها


العنصر الخامس من مكونات الأمة المسلمة :  النصرة

أ- في معنى النصرة ومظاهرها

النصرة هي العنصر الخامس من العناصر المكونة للأمة المسلمة. وللوقوف على مضمون هذا العنصر لا بد من النظر في أمرين :

الأول : معنى  النصرة في القرآن والحديث.

والثاني : المناسبات التي اقترنت بالتوجيهات التي عالجت هذا العنصر، والتطبيقات التي جسدته في مجتمع النبوة والخلفاء الراشدين.

معنى النصرة

يتردد ذكر مصطلح النصرة ومشتقاته في القرآن والحديث لتعني ما يلي :

> النصرة : بمعنى  اتباع دين الله، والجهاد في سبيله، وطاعة أوامره، واجتناب معاصيه. مثل قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}(محمد : 7).

> النصرة بمعنى التأييد والمساعدة على التفوق والغلبة. مثل قوله تعالى : {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}(آل عمران : 123).

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا}(التوبة : 25),

> النصرة بمعنى المؤازرة. مثل قوله تعالى : {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(الأعراف : 157).

وفي الحديث : “النساء ينصر بعضهن بعضا”، البخاري، كتاب اللباس.

“من نصر قومه على غير حق فهو كالبعير”، أبو داود، السنن، كتاب الأدب، 112.

> النصرة بمعنى الحماية. مثل قوله تعالى : {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم} (هود : 30).

{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة : 40).

> النصرة بمعنى مساندة الحق وإشاعة العدل. مثل قوله تعالى : {مالكم لا تناصرون} (الصافات : 25).

> النصرة بمعنى الثأر ودفع العدوان مثل قوله تعالى : {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}(الشورى : 39).

وفي الحديث : “دونك فانتصري”(1).

“من دعا على من ظلمه فقد انتصر”(2).

ـ النصرة بمعنى منع الظلم ودفعه إذا وقع. مثل قوله  : “أمرنا بعيادة المريض ونصرة المظلوم”(3).

“من أذل عنده مؤمن، فلم ينصره وهو يقدر على نصره، أذله الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة”(4).

يقول الله عز وجل : وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى  مظلوما فقدر على أن ينصره فلم ينصره”(5).

أما عن المناسبات التي اقترنت بالتوجيهات القرآنية والنبوية التي عالجت عنصر النصرة، وأدرجته في العناصر المكونة للأمة الإسلامية فهي :

أولا ذلك الالتزام الكامل الذي قام به الأنصار قولا وعملا لنصرة الرسول ، ونصرة المهاجرين معه، ومن أجل ذلك أطلق عليهم اسم (الأنصار)..

وهي ثانيا : تلك التضحية الكاملة التي قدمها المهاجرون حين اقتلعوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وثقافته اقتلاعا كاملا، ثم أوقفوا هذه الأنفس لنصرة دين الله سبحانه وتعالى :

وهي ثالثا : إقامة الفريقين مجتمعين لمعاني الإسلام في واقع حياتهم، في المجتمع النبوي والراشدي، ثم الخروج إلى  العالم كله لإقامة هذه المعاني في حياة الآخرين.

مظاهر النصرة

يتحقق عنصر ـ النصرة ـ في حياة الأمة المسلمة من خلال المظاهر التالية :

1- نصرة “أفكار” الرسالة الإسلامية في مواجهة طغيان “الأشخاص” وزخرف ” الأشياء”، وتفصيل ذلك كالتالي :

يتكون كل مجتمع من ثلاثة عناصر رئيسية هي : الأفكار، والأشخاص، والأشياء.  وتكون الأمة في أعلى درجات الصحة، حين تكون “نصرة” الأفكار هي المحور الذي يدور في فلكه ” الأشخاص والأشياء”. ففي هذه الحالة يخلف “أشخاص” المؤمنين الرسول في نصرة أفكار الرسالة، فتظهر (الخلافة) وتتحدد مواقع الأفراد ووظائفهم طبقا لمقياسين :

> الأول : مدى القدرة على  حمل الرسالة، أي فقهها وتطبيقها.

> والثاني : مدى الإخلاص في هذا الحمل. والقرآن يطلق على كل من القدرة والإخلاص، اصطلاحي : القوة، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى  : {إن خير من استأجرت القوي الأمين}(القصص : 26). وفي آية أخرى يسميها : التمكين، والأمانة. وذلك عند قوله تعالى : {إنك اليوم لدينا مكين أمين}(يوسف : 54). والقوة هنا تعني (الجدارة) وهي شاملة ذات مظاهر عديدة. فهي في ميدان الحكم تدور حول الحكم بالعدل، كما دل عليه القرآن والسنة، وحول القدرة على تنفيذ الأحكام. والقوة في ميدان العسكرية تدور حول شجاعة القلب، والخبرة العسكرية. وهكذا في بقية ميادين الحياة كالتربية والإدارة، والاقتصاد، والصناعة وغيرها.

أما (الأمانة) فتدور حول الولاء الذي من أجله تبذل القدرة : أهو لـ”أفكار” الرسالة، أم لـ”الأشخاص”، أم ل” الأشياء”؟؟

ويتسرب الخلل إلى عنصر (النصرة) حين تطغى نصرة “الأشخاص” على نصرة “الأفكار”. والتطبيقات العملية لهذا الطغيان تتمثل في (امتلاك)ـ أصحاب العصبيات الأسرية، أو القبلية، أو الطائفية، أو العرقية، أو الإقليمية، ل” الأفكار والأشياء”، ثم توظيفها معا لدعم مكانة “أشخاص” العصبيات ونفوذهم. وتتحدد مراكز الأفراد ووظائفهم طبقا لمدى استعمالهم لصفتي : القوة، والأمانة، في خدمة هذه العصبيات.

وهذا ما حذر أبو بكر الصديق ]، منه يزيد بن أبي سفيان ]، كما روى ذلك يزيد نفسه فقال :

“قال أبو بكر لما بعثني إلى الشام : يا يزيد إن لك قرابة عسى أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك. فإن رسول الله  قال : من ولي من أمور المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا، محاباة له بغير حق، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم، ومن أعطى أحدا من مال محاباة فعليه لعنة الله. أو قال : برئت منه ذمة الله. إن الله دعا الناس أن يؤمنوا فيكونوا حمى لله. فمن انتهك في حمى الله شيئا بغير حق، فعليه لعنة الله. أو قال: برئت منه ذمة الله عز وجل” (6).

ومن هذا الهدي النبوي ـ الراشدي، استوحى ابن تيمية آراءه في هذا الشأن فقال : “فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو مرافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة أو جنس، كالعربية، والفارسية، والتركية، والرومية، أو لرشوة يأخذها من مال، أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، فيما نهى  الله عنه في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا  تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، ثم قال : {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}، فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه مالا  يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته”(7).

ولما كانت “الأشياء”، وما تجسده من مال وزخارف الحياة المادية، هي الوسيلة الرئيسية التي يستعملها “أشخاص” العصبيات للحصول على النصرة، فإنه سرعان ما تصبح نصرة “الأشياء” هي المحور الذي تدور في فلكه “الأفكار والأشخاص”، وتصبح الهيمنة في الأمة لأرباب المال، والتجارات، وصانعي الشهوات، وتسود ثقافة الاستهلاك والترف، وتتمزق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتصبح الأفكار والقيم بعض سلع التجارة، ومواد الاستهلاك والدعايات السياسية والاقتصادية، ويتوقف التفكير الموضوعي، ويحل محله الهوى، وتتحدد ميادين التربية بحدود هذه الثقافة الاستهلاكية، وينشغل الناس بأشيائهم وحاجاتهم اليومية، ويعودون كالجاهلية هِمّة أحدهم لا تتعدى بطنه وفرجه، ولا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا. وتكون المحصلة النهائية لهذا التحول هو السعي (لامتلاك) “الأشياء”، فتظهر ظاهرة (الملك القسري) أي الذي يُتوصل إليه بالقسر والعنف، والانقلابات الدموية، والفتن.

ويلخص الحديث النبوي هذا التطور السلبي من (نصرة) “أفكار” الرسالة حتى “نصرة الأشياء”، عند قوله  :

“إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة و خلافة، ثم كائن ملكاً عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج، ويرزقون على ذلك وينصرون”(8).

والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة، تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت الأمة المسلمة في صدر الإسلام، وتفوقها على مجتمعات الرومان وفارس وغيرها. ولكن المجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، أو التي يختلط فيها الصحيح والخاطئ، فهذه تتفوق على المجتمعات التي تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وتهزمها كما هو الحال ـ الآن ـ في تفوق المجتمعات الغربية على مجتمعات العالم الثالث ـ ومنه العالم العربي والاسلامي الحديث.

والشكل الذي تنتظم طبقا له عناصر الأفكار والأشخاص والأشياء، يحدد نوع التربية وتطبيقاتها، في الثقافة والعلوم، ونظم الحياة المختلفة. فعندما تكون “الأفكار” هي المحور الذي يدور في فلكه “الأشخاص والأشياء”، فإن التربية تتخذ مثلها الأعلى ـ وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها من ميدان الأفكار، ودرجة التزام الأشخاص بها، وتجسيد الأشياء لها، في الماضي والحاضر ويُنَصِّرَانِهَا<-رواه الطبري انظر ابن كثير 2/261- .

والمستقبل. ويكون من ثمار التربية بناء حضارة تدور حول تطبيقات الأفكار، وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري.

أما حين يحتل “الأشخاص” مركز المحور الذي تدور في فلكه “الأفكار والأشياء”، فإن التربية تتخذ (مثلها الأعلى) وخبراتها التي تضمنها مناهجها وتطبيقاتها، من ميدان “الأشخاص”، ومدى فاعلية قوتهم في الماضي والحاضر والمستقبل، واستعمال الأشياء لتنفيذ إرادتهم.

وأما حين تكون “الأشياء” هي المحور الذي تدور في فلكه “الأفكار والأشخاص”، فإن التربية تتخذ (مثلها الأعلى) وتنتقي خبراتها المنهجية، وتطبيقاتها العملية، من ميدان الأشياء وتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ومدى تأثيرها في عالم الأفكار والأشخاص على المستوى المحلي والعالمي. ويكون من ثمار التربية، بناء حضارة مادية تدور حول تطبيقات الأشياء وتجسيدها في مسيرة الاجتماع البشري. وهذه هي حال التربية الحديثة التي يدور محور “النصرة” فيها حول الأشياء، كما أن العلوم والثقافات والآداب والفنون التي أفرزتها ـ وتفرزها ـ هي أيضا تتخذ مثلها الأعلى (وتنتقي) خبراتها من الدوران في فلك “الأشياء”، في حين يدور كل من “الأفكار” و”الأشخاص” في فلك “الأشياء” ويستثمران من أجل توفير الأشياء وتحسينها. والتجسيد العملي لهذا كله هو حضارة “الإنتاج والاستهلاك” التي يقودها الغرب المعاصر، وتؤثر في العالم كله.

د. عرسان الكيلاني

—–

1- مسند أحمد باب النكاح.

2- سنن الترمذي كتاب الدعوات.

3- سنن النسائي كتاب الجنائز.

4- سنن أحمد (شرح الساعاتي) ج 19 ص 69 رقم 120.

5- المتقي الهندي، كنز العمال، ج 3 ص 505.

6- نفسه ج 5 ص 665 نقلا عن مسند أحمد.

7­- ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد ج 28 ص 249.

8- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8 ص 20.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>