إن الهجرة ظاهرة بشرية، تتكرر صورها، وتتعدد أشكالها، عبر الأزمنة والحقب. ويبقى مضمونها واحدا هو: الانتقال من أرض إلى أرض. والنزوح عن وطن والاستقرار في آخر، وهجرة المسلمين اليوم إلى الديار الأوربية لا تخرج عن هذا الإطار. وأسبابها تكاد تكون هي أسباب الهجرة في مختلف العصور، وعند مختلف الأقوام. فمن مهاجر يطلب الرزق ويبحث عن لقمة العيش، يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله، ويحقق مضمون قول الله تعالى: {هوالذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} إلى مهاجر خرج يلتمس علما، ويبحث عن فقه في الدنيا، أوفقه في الدين، نابع من فقه في الدنيا بالتعرف على أسرار الكون ودراسة نواميس الحياة، قال تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} يرجع بعد ذلك إلى أرضه لينفع أهله وينذر قومه كما قال تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين..} الآية إلى مهاجر خرج فارا بنفسه من ظلم واقع عليه، وهاربا إلى أرض ينجوفيها من ظلم العباد، مقتديا بالرسل والأنبياء عليهم السلام: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هوالعزيز الحكيم}.
لقد تحولت هجرة المسلمين اليوم إلى استقرار دائم، واستيطان مستمر، وتشكلت تبعا لذلك جماعات عرقية ودينية جديدة على المجتمع الأوربي. ومن هنا يبدأ صراع الهوية، فالمسلمون جاءوا إلى أوربا بكل موروثاتهم الثقافية والحضارية والاجتماعية، وليسوا على استعداد للتخلص من كل ذلك أوبعضه على الأقل، والمجتمع الأوربي، مجتمع مفتوح، لم تعد فيه للقيم مكانة، ولا للدين وزن،ولا للأخلاق سلطان، وكان الصراع في أوله ضعيفا لأسباب أهمها: أن المهاجرين كانوا فرادى ولم يكونوا يشكلون تجمعات سكانية قارة، أما اليوم فإن الصراع على أشده، والعراك في أوج قوته، وإن أجلى ما يتجلى فيه صراع الهوية، وأظهر مظهر لنزاع البقاء والفناء، هو: ما يتعلق بالأجيال الناشئة في أوربا، ذلك أن المجتمع الغربي بكل قواه الثقافية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية يعمل جاهدا لطمس معالم الشخصية الإسلامية، ومحوالثقافة الوافدة، ودمج هذا الجسم الدخيل في الجسم الأصيل، إن هناك عشرات الملايين من الأموال تنفق بسخاء حاتمي على المؤسسات والهيئات التي تعمل على إدماج الجاليات الإسلامية في المجتمع الأوربي، وإذا كان الإدماج الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي يكاد يكون مقبولا، بل ومفروضا في بعض جوانبه، فإن الإدماج الثقافي والتربوي والأخلاقي مرفوض من قبل الجاليات الإسلامية،وحوله يدور الصراع، ونحن نعتقد أن البقاء للأصلح {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..} وإن الجاليات الإسلامية، بما لها من رصيد حضاري، وثقافة ربانية، وعمق استراتيجي متمثل في الدول الإسلامية، تستطيع أن تؤثر في البناء الثقافي، وتحدث تغييرا في البعد التربوي في المجتمع الأوربي، إلا أن ذلك يتطلب جهودا مستمرة، وكفاءات مقتدرة، ورسم مناهج محكمة، ووضع برامج متقنة، ولا يكون ذلك إلا بالتعاون بين هذه الجاليات ممثلة في مؤسساتها الفاعلة، وبين الأجهزة الحكومية المختصة في الدول الإسلامية قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى …} لقد شعر المسلمون في أوربا وأمريكا بصعوبة الأمر، وحرج الموقف، فأسسوا مؤسسات قصد حمايتهم من الذوبان ومن أجل حفظ هويتهم من الانهيار، فكان:
> أولها: المسجد. ومهمته متعددة الأوجه، فمن الصلوات الخمس والجمعة، إلى التعليم الأولي للأطفال، إلى تحفيظ القرآن إلى الدروس الوعظية إلى الإفتاء والإصلاح بين الناس ومساعدة الغرباء، إلى تجهيز الموتى من حين وفاتهم إلى بعثهم إلى بلدانهم الأصلية، وإلى الإشراف على بعض عقود الزواج لمن لا تكون لهم مؤسسات تقوم بذلك…..
>وثانيها: المدرسة ومهمتها: التربية والتعليم، وحماية الطفل المسلم من المدارس التي لا تعدوأن تكون مدارس إلحاد صرف، أومدارس نصرانية، إما كاثوليكية أوبروتستانتية ومدارس الجاليات ومدارسنا الإسلامية تنقصها الكفاءات البشرية، وتعوزها الخبرة العلمية، ولذلك فمردوديتها ضعيفة، وحصيلتها هزيلة.
> ثالثها: الأندية الثقافية ومهمتها تقديم الخدمات الثقافية، والأنشطة الترفيهية، التي لا يمكن القيام بها في المساجد، لأن المساجد في أغلبها مساجد تقليدية تتسم بالركود والجمود ويشرف عليها ناس لا يدركون متطلبات الواقع، ولا يعرفون حاجة الأجيال الصاعدة. وعيب هذه الأندية أنها تخلط بين الغث والسمين، وبين الأصيل والدخيل، ولذلك فإنها ربما تكون أكثر ضررا على الهوية من مؤسسات المجتمع الأوربي نفسه.
> رابعها: الجمعيات الثقافية والاجتماعية، وهي في أغلبها جمعيات جادة. تقدم خدمات ثقافية وتقوم بأعمال اجتماعية هامة، ولها حضور متميز وسط الجالية، ويؤطرها شباب واع ومثقف. ومشكلتها الأساسية: ضعف الواردات المالية، ومع ذلك فهي تغالب الشدائد وتقارع النوائب للحفاظ على الهوية الإسلامية..
إن الأجيال الناشئة في أوربا، تتعرض اليوم لمحن شديدة، وتمر بمنعطف خطير، وتواجه شدائد جمة. فهي في الدراسة تعاني من التراجع المخجل.وهي في سوق العمل كاسدة، والمجتمع الأوربي لا يحترم ضعيفا، ولا يقيم للعاطلين وزنا، والمؤسسات الإسلامية، لم تفهم هذه الأجيال، ولم تستطع أن تستوعب مشاكلها، وأحرى أن تجد لها الحلول المناسبة. إن هذه التراكمات، أصابت هذه الأجيال في كبدها، وجعلتها تفقد الأمل في كل من حولها من قريب أوبعيد، فاتجه الكثير منها إلى الإجرام. وسقط في براثن الانحراف، وصار الجميع الآن يجأر بالشكوى من هذا الواقع الذي تتردى فيه أجيالنا الناشئة في تلك الديار.
إن الواقع المعيش هناك- والحق أقول- ينذر بخطر شديد، لأن أدوات الصراع غير متكافئة، وطرفيه على طرفي نقيض، من فرص النجاح وإمكانياته، فبينما يملك المجتمع الأوربي كل وسائل النجاح وأدواته المادية، فإن المسلمين لا يملكون منها شيئا ذا بال، ومثال ذلك الإعلام الذي له الدور الأساسي في إذكاء الصراع أوإخماده فإن الجاليات الإسلامية لا تملك منه حتى جريدة أسبوعية واحدة وما تملكه الجاليات من مؤسسات أخرى أشرنا إليها ضعيفة حسا ومعنى، وليست بقادرة في وضعها الراهن على التصدي بله التحدي لذلك كان لزاما على ولاة أمور المسلمين خاصة والمسلمين عامة إعطاء هذا الأمر ما يستحق من عناية ورعاية.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
محمد العمراوي السجلماسي